سورة الإسراء - تفسير تفسير الثعلبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإسراء)


        


{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)}
{سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً}.
«عن طلحة بن عبيد الله قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير سبحان الله. قال: تنزيه الله عن كل سوء» ويكون سبحان بمعنى التعجب.
قال الأعشى:
أقول لما جاءني فخر *** سبحان من علقمة الفاخر
وفي بعض الحديث تفسير سبحان الله: براءة الله من السوء.
فالآية متضمنة للمعنين جميعاً.
{مِّنَ المسجد الحرام}. اختلفوا فيه: قال بعضهم: كان اسراء رسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد مكة.
يدل عليه ماروى قتادة عن أنس عن مالك بن صعصعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بينما أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبرئيل بالبراق..» وذكر حديث المعراج.
وقال الآخرون: عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم من دار أم هاني بنت أبي طالب أخت علي رضي الله عنه وزوجها هبيرة بن أبي وهب المخزومي.
وقالوا: معنى قوله: {مِّنَ المسجد الحرام} من الحرم، لأن الحرم كله مسجد.
يدل عليه ماروى الكلبي عن أبي صالح عن باذان عن أم هاني بنت أبي طالب أنها كانت تقول: ما أسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ وهو في بيتي نائم عندي تلك الليلة فصلى في بيتي العشاء الآخرة فصليت معه، ثمّ قمت فنمت وتركته في مصلاه فلم انتبه حتّى أنبهني لصلاة الغداة، قال: «قومي يا أم هاني أُحدثك العجب».
فقلت: كل حديثك العجب بأبي أنت وأمي فقام وصلى الغداة فصليت معه فلما إنصرف قال: «يا أم هاني لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بعد نومك ثمّ أتاني جبرئيل وأنا في مُصلاي هذا فقال: يا محمّد أخرج فخرجت إلى الباب فإذا بملك راكب على دابة فقال لي: اركب فركبت فسارت بي إلى بيت المقدس، فإذا أتيت على واد طالت يدا الدابة وقصرت رجلاها، فإذا أتيت على عقبة طالت رجلاها وقصرت يداها حتّى إذا أنتهيت إلى بيت المقدس فصليت فيه ثمّ صليت صلاة الغداة معكم الآن كما تروني».
قال مقاتل: كانت ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة.
{إلى المسجد الأقصى} يعني بيت المقدس، سمّي أقصى لأنه أبعد المساجد التي تزار {الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} بالماء والأنهار والأشجار والثمار.
وقال مجاهد: سمّاه مباركاً لأنه مَقَرّ الأنبياء، وفيه مهبط الملائكة والوحي، وهو الصخرة، ومنه يحشر الناس يوم القيامة.
{لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ} عجائب أمرنا {إِنَّهُ هُوَ السميع البصير}.
وأما حديث المسرى، فأقتصرت به على الأخبار المأثورة المشهورة دون المناكير والأحاديث الواهية الأسانيد وجمعتها على نسق واحد مختصر، ليكون أعلى في الاستماع وأدنى إلى الانتفاع، وهو ما ورى الزهري عن ابن سلمة بن عبد الرحمن قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى السدي عن محمّد بن السائب عن باذان عن ابن عبّاس عن النبي صلى الله عليه وسلم دخل كلام بعضهم في بعض قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما كانت ليلة أسري بي وأنا بمكة بين النائم واليقظان، جاءني جبرئيل عليه السلام فقال يا محمّد قم فقمت فإذا جبرئيل ومعه ميكائيل فقال جبرئيل لميكائيل: أئتني بطشت من ماء زمزم لكيما وعطر قلبه وأشرح له صدره قال: فشق بطني فغسله ثلاث مرات واختلف إليه ميكائيل بثلاث طشات من ماء زمزم، فشرح صدري ونزع ما كان فيه من غل وملاه حلماً وعلماً وإيماناً وختم بين كتفيَّ بخاتم النبوة، ثمّ أخذ جبرئيل بيدي حتّى انتهى بي إلى سقاية زمزم فقال لملك: ائتني بنور من ماء زمزم ومن ماء الكوثر، فقال: توضأ فتوضأت ثمّ قال لي: انطلق يا محمّد. قلت: إلى اين؟ قال: إلى ربك ورب كل شيء، فأخذ بيدي وأخرجني من المسجد فإذا أنا بالبراق دابة فوق الحمار ودون البغل خدّه كخد الانسان وذنبه كذنب البعير وعرفه كعرف الفرس وقوائمه كقوائم الابل وأظلافه كأظلاف البقر وصدره كأنه ياقوتة حمراء وظهره كأنه درة بيضاء عليه رحل من رحائل الجنة، وله جناحان في فخذيه يمّر مثل البرق خطوة منتهى طرفه فقال لي: إركب، وهي دابة إبراهيم التي كان يزور عليها البيت الحرام.
قال: فلما وضعت يديَّ عليه شمس واستعصى عليَّ، فقال جبرئيل: مه يابراق، فقال البراق: يا جبرئيل مس ظهري فقال جبرئيل: هل مسستَ ظهراً قال: لا والله إلاّ إني مررت يوماً على نصاب إبل فمسحت يدي على رؤسهما وقلت: إن قوماً يعبدونكما من دون الله ضلال. فقال جبرئيل: يابراق أما تستحي فوالله ماركبك مذ كنت قط نبي أكرم على الله من محمد صلى الله عليه وسلم قال: فأرتعش البراق وأنصب عرقاً حياءً مني، ثمّ خفض لي حتى لزق بالأرض، فركبته واستويت عليه قام بي جبرئيل نحو المسجد الأقصى بخطوا البراق مدَّ البصر يرسل إلى جنبي لا يفوتني ولا أفوته حيناً أنا في مسيري إذا جاءني نداء عن يميني قال: يا محمّد على رسلك أسلك بقولها ثلاثاً فلم أرفق عليه ثمّ مضيت حتّى جاوزته، فإذا أنا بامرأة عجوز رفعت لي عليها من كل زينة وبهجة تقول: يا محمّد إليَّ، فلم ألتفت إليها وقلت: يا جبرئيل من هذا الذي ناداني عن يميني؟ فقال: داعية اليهود والذي نفسي بيده لو أجبته لتهودت أُمتك من بعدك والذي ناداك من يسارك داعية النصارى، والذي نفسي بيده لو أجبت لتنصّرت أُمتك من بعدك، فأما التي رفعت لك بهجتها وزينتها فهي الدنيا لو التويت إليها لاختارت أُمتك الدنيا على الآخرة.
ثمّ أتيت بإنائين أحدهما اللبن والآخر خمرة فقيل لي: اشرب ايهما شئت، فأخذت اللبن فشربته. فقال لي جبرئيل: أصبت الفطرة أنت وأمتك، أما إنك لو أخذت الخمر لخمرت أمتك من بعدك قال: ثمّ سار رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار معه جبرئيل فأتى على قوم يزرعون ويحصدون في يوم واحد، كلما حصدوا عاد كما كان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء المهاجرون في سبيل الله يضاعف لهم الحسنة سبعمائة ضعف، وما انفقوا من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين.
قال: ثمّ أتى على قوم يرضخ رؤسهم بالصخر كلما رضخت عادت كما كانت لا يفتر عنهم من ذلك شيئاً. قال: ماهؤلاء ياجبرئيل؟ قال: هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة. ثمّ أتى على قوم إقبالهم رقاع وعلى أدبارهم رقاع فيسرحون كما تسرح الأنعام إلى الضريع، والزقوم قد صف جهنم وحجارتها فقال: ماهؤلاء ياجبرئيل؟ فقال: هؤلاء الذين لايؤدون صدقات أموالهم وماظلمهم الله {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] ثمّ أتى على قوم بين ايديهم لحم في قدر نضيج طيب ولحم آخر خبيث، فجعلوا يأكلون الخبيث ويدعون النضيج الطيب، قال: ماهؤلاء ياجبرئيل؟ فقال: هذا الرجل من يكون عنده المرأة حلالاً طيباً فأتى امرأه خبيثة فيبيت معها حتّى يصبح، فالمرأة تقوم من عند زوجها حلالاً طيباً فتأتي الرجل الخبيث فتبيت معه حتّى تصبح، ثمّ أتى على إمرأة في الطريق لا يمر بها ثوب إلا شقته ولا شيء آخر إلا فتتّه. فقال: ما هذا ياجبرئيل؟ قال: هذا مثل أمتك يقعدون على الطريق فيقطعون بمثلاً {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ} [الأعراف: 86] الآية ثمّ أتى على رجل جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها وهو يزيد عليها فقال: ما هذا ياجبرئيل؟ قال: هذا الرجل من أمتك عليه أمانات الناس لايقدر على أدائها وهو يزيد عليها، ثمّ أتى على قوم يقرض السنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد، كلما قرضت عادت كما كانت. قال: ما هؤلاء ياجبرئيل؟ قال هؤلاء خطباء الفتنة، ثمّ أتى على حجر صغير يخرج منه ثور عظيم فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج فلا يستطيع.
قال: ما هذا؟ قال: هذا الرجل من أمتك يتكلم الكلمة العظيمة ثمّ يندم عليها ولا يستطيع أن يردها. قال: ثمّ أتى واد فوجد ريحاً طيبة باردة وصوتاً. قال: ما هذه الريح الطيبة وما هذا الصوت؟ قال: هذا صوت الجنة، فقال: ربّ أرني بما وعدتني فقد كثر غُرَفي واستبرقي وحريري وسندسي وعبقري ولؤلؤي ومرجاني وفضتي وذهبي وأكوابي وصحافي وأباريقي وفواكهي وعسلي ولبني وخمري ومائي، فأتني بما وعدتني. فقال: لك كل مؤمن ومؤمنة من آمن بي وبرسلي وعمل صالحاً ولم يشرك بي ولم يتخذ من دوني أنداداً، ومن خشيني فهو آمن ومن سألني أعطيته ومن أقرضني جزيته ومن توكل عليَّ كفيته، إني أنا الله لا إله إلاّ أنا لا أخلف الميعاد قد أفلح المؤمنين تبارك الله أحسن الخالقين قال: قد رضيت. قال ثمّ أتى على واد فسمع صوتاً منكراً ووجد ريحاً منتنة فقال: ماهذا يا جبرئيل؟ قال: هذا صوت جهنم تقول: يا ربّ آتني ما وعدتني فقد كثرت سلاسلي وأغلالي وسعيري وحميمي وضريعي وغساقي وعذابي، وقد بعد قعري واشتد حرّي إئتني بما وعدتني، قال: لك كل مشرك ومشركة وكافر وكافرة وكل خبيث وخبيثة وكل جبار لايؤمن بيوم الحساب.
قالت: قد رضيت يارب، ثمّ سار ومعه جبرئيل فقال له جبرئيل: إنزل فصل. قال: فنزلت وصليت، فقال: أتدري أين صليت؟ صليت بطيبة وإليها المهاجرة إلى الله. ثمّ قال: إنزل فصلّ قال فنزلت فصليت فقال: أتدري أين صليت صليت بطور سيناء حيث كلّم الله موسى ثمّ قال: إنزل فصل، قال: فنزلت فصليت. فقال: أتدري أين صليت؟ صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى عليه السلام قال: ثمّ مضينا حتّى أتينا بيت المقدس فلما انتهيت إليه إذا أنا بملائكة قد نزلوا من السماء يتلقونني بالبشارة والكرامة من عند رب العزة يقولون: السلام عليك يا أول ويا آخر ويا حاشر، قال: قلت ياجبرئيل ما تحيتهم إياي؟ قال: إنك أول من تنشر عنه الأرض وعن أمتك، وأول شافع وأول مشفع وإنك آخر الأنبياء وإن الحشر لك وبأمتك يعني حشر يوم القيامة.
قال صلى الله عليه وسلم ثمّ جاوزناهم حتّى انتهينا إلى باب المسجد، فأنزلني جبرئيل وربط البراق بالحلقة الي كانت تربط بها الأنبياء عليه السلام بحطام عليه من حرير الجنة، فلما دخلت الباب إذا أنا بالأنبياء والمرسلين».
وفي حديث أبي العالية: «أرواح الأنبياء والمرسلين الذين بعثهم الله قبلي من لدن إدريس ونوح إلى عيسى قد جمعهم الله عزّ وجلّ، فسلموا عليَّ وحيوني بمثل تحية الملائكة قلت: ياجبرئيل من هؤلاء؟ قال: أخوتك الأنبياء، زعمت قريش أن لله شريكاً، واليهود والنصارى أن لله ولداً، سل هؤلاء المرسلين هل لله شريك؟».
وذلك قوله تعالى: {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45] فأقرّوا بالربوبية لله تعالى ثمّ جمعهم والملائكة صفوفاً فقدمني وأمرني أن أُصلي بهم فصليت بهم ركعتين. ثمّ إن الأنبياء أثنوا على ربهم فقال إبراهيم عليه السلام الحمد لله الذي إتخذني خليلاً وأعطاني مُلكاً عظيماً وجعلني أُمة قانتاً يؤتم بي وأنقذني من النار وجعلها عليّ برداً وسلاماً. ثمّ إن موسى عليه السلام أثنى على ربّه فقال: الحمد لله رب العالمين الذي كلمني تكليماً وجعل هلاك فرعون منه ونجاة بني إسرائيل على يديّ، وجعل من أمتي قوماً يهدون بالحق وبه يعدلون. ثمّ إن داود عليه السلام أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي جعل لي ملكاً عظيماً وعلمني الزبور وأَلاَنَ لي الحديد وسخر لي الجبال يسبحن والطير وأعطاني الحكمة وفصل الخطاب. ثمّ إن سليمان عليه السلام أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي سخر لي الرياح وسخر لي جنود الشياطين يعملون لي ما شئت من محاريب وتماثيل وجفان كالجواني وقدور راسيات، وعلمني منطق الطير وآتاني من كل شيء فضلاً وآتاني ملكاً عظيماً لا ينبغي لأحد من بعدي وجعل ملكي ملكاً طيباً ليس عليّ فيه حساب.
ثمّ إن عيسى عليه السلام أثنى على ربه فقال: الحمد لله ربّ العالمين الذي جعلني كلمة منه وجعلني أخلق من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وجعلني أبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله ورفعني وطهرني وأعاذني وأُمّي من الشيطان الرجيم فلم يكن للشيطان علينا سبيل.
ثمّ إن محمداً صلى الله عليه وسلم قال: «كلكم قد أثنى على ربه وأنا مثن على ربي» فقال: «الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين وكافة للناس بشيراً ونذيراً وأنزل عليّ القرآن فيه بيان كل شيء وجعل أُمتي {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] وجعل أُمتي {أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] وجعل أُمتي هم الأولون والآخرون وشرح لي صدري ووضع عني وزري ورفع لي ذكري وجعلني فاتحاً وخاتماً».
فقال إبراهيم عليه السلام: بهذا أفضلكم محمّد، ثمّ أتى بآنية ثلاثة مغطاة أفواهها: إناء فيه ماء فقيل له: إشرب فشرب منه يسيراً، ثمّ دفع إليه إناء آخر فيه لبن فقيل له: إشرب فشرب منه حتّى روى، ثمّ دفع إليه إناء آخر فيه خمر فقيل له: إشرب، فقال: لا أريده قد رويت. فقال له جبرئيل: قد أصبت أما إنها ستحرم على أُمتك، ولو شربت منها لم يتبعك من أُمتك إلاّ قليل، ولو رويت من الماء لغرقت وغرقت أمتك ثمّ أخذ جبرئيل عليه السلام بيدي فإنطلق بي إلى الصخرة فصعد بي إليها فإذا معراج إلى السماء لم أرَّ مثله حسناً وجمالاً لم ينظر الناظرون إلى شيء قط أحسن منه. ومنه تعرج الملائكة اصله على صخرة بيت المقدس ورأسه ملتصق بالسماء إحدى عارضيه ياقوتة حمراء والأخرى زبرجدة خضراء درجة من فضة ودرجة من ذهب ودرجة من زمرد مكلل بالدر والياقوت وهو المعراج الذي ينطلق منه ملك الموت لقبض الأرواح لمغاراتهم فيمنكم شخص أسرعت عنه المعرفة إذا عاينه لحسنهُ، فاحتملني جبرئيل حتّى وضعني على جناحه ثمّ ارتفع بي إلى سماء الدنيا من ذلك المعراج، فقرع الباب فقيل: مَن؟ قال: أنا جبرئيل. قال: ومن معك؟ قال: محمّد.
قال: أوَقد بعث محمّد؟ قال: نعم. قال: مرحباً به حيّاهُ الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء ففتح الباب ودخلنا. قال: فبينما أنا أسير في السماء الدنيا إذ رايت ديكاً له زغب أخضر ورأس أبيض بياض ريشه كأشد بياض ما رأيته قط، وزغب أخضر تحت ريشه كأشد خضرة ما رأيتها قط وإذا رجلا في تخوم الأرض السابعة السفلى ورأسه عند العرش مثنيّ عنقه تحت العرش له جناحان من منكبيه إذا نشرهما جاوز المشرق والمغرب فإذا كان في بعض الميل نشر جناحيه وخفق بهما، وصرخ بالتسبيح لله عزّ وجلّ يقول سبحان الملك القدوس الكبير المتعال لا إله إلاّ هو الحي القيوم، فإذا فعل ذلك سبّحت ديكة الأرض كلها وخفقت بأجنحتها وأخذت في الصراخ فإذا سكن ذلك الديك في السماء سكنت ديكة الأرض كلها، ثمّ إذا هاج بنحو ما فعلوا في السماء صاحت ديكة الأرض جواباً له بالتسبيح لله عزّ وجلّ بنحو قوله.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم أزل منذ رأيت ذلك الديك مشتاقاً إليه أن أراه ثانية».
قال: ثمّ مررت بملك نصف جسده مما يلي رأسه نار والنصف الآخر ثلج وما بينهم رتق، فلا النار يذيب الثلج ولا الثلج يطفيء النار، وهو قائم ينادي بصوت له حسن رفيع: اللهم مؤلف بين الثلج والنار ألف بين قلوب عبادك المؤمنين.
فقلت: يا جبرئيل من هذا؟ قال: ملك من الملائكة يقال له حبيب وكلّه الله بأكناف السماوات وأطراف الأرضين، ما أنصحه لأهل الأرض هذا قوله منذ خلقه الله تعالى. قال: ثمّ مررت بملك آخر جالس على كرسي قد جمع الدنيا بين ركبتيه، وفي يديه لوح مكتوب من نور ينظر فيه لا يلتفت يميناً ولا شمالاً ينظر فيه كهيئة الحزين. فقلت: من هذا ياجبرئيل؟ مامررت أنا بملك أنا أشد خوفاً منه شيء من هذا؟ قال: وما يمنعك كلّنا بمنزلتك، هذا ملك الموت دائب في قبض الأرواح وهو أشد الملائكة عملاً وأدأبهم. قلت: يا جبرئيل كل من مات نظر إلى هذا؟ قال: نعم. قلت: كفى بالموت من طامة. فقال: يا محمّد ما بعد الموت أطمّ وأعظم، قلت: يا جبرئيل أُدنني من ملك الموت أسلم عليه وأساله فأدناني منه فسلمت عليه فأومى إليَّ فقال له جبرئيل: هذا محمّد نبي الرحمة ورسول العرب فرحب بي وحياني وأحسن بشارتي وإكرامي. وقال: أبشر يا محمّد فإني ارى الخير كله في أمتك. فقلت: الحمد لله المنان بالنعم، ما هذا اللوح الذي بين يديك؟ قال: مكتوب فيه آجال الخلائق.
قلت: فأين أسماء من قبضت أرواحهم في الدهور الخالية؟ قال: تلك في لوح آخر قد علمت خلقها، ولذلك أصنع بكل ذي روح إذا قبضت روحه خَلفّت عليها، فقلت: يا ملك الموت سبحان الله كيف تقدر على قبض أرواح جميع أهل الأرض وأنت في مكانك هذا لا تبرح؟ قال: ألا ترى أن الدنيا كلها بين ركبتي وجميع الخلائق بين عيني ويداي يبلغان المشرق والمغرب وخلقهما فإذا نفد أجل عبد من عباد الله نظرت إليه وإلى أعواني فإذا نظر أعواني من الملائكة اليَّ فنظرت إليه عرفوا أنه مقبوض فعمدوا إليه يعالجون نزع روحه فإذا بلغ الروح الحلقوم علمت ذلك ولا يخفى عليَّ شيء من أمري، أمددت يدي إليه فقبضته فلا يلي قبضه غيري، فذلك أمري وأمر ذوي الأرواح من عباد الله.
قال: إنما أبكاني حديثه وأنا عنده ثمّ جاوزنا فمررنا بملك آخر ما رأيت من الملائكة خلقاً مثله عابس الوجه كريه المنظر شديد البطش ظاهر الغضب، فلما نظر رغبت منه شيئاً وسألته فقلت: يا جبرئيل من هذا؟ فإني رعبت منه رعباً شديداً قال: فلا تعجب أن ترعب منه كلنا بمنزلتك في الرعب منه، هذا مالك خازن النار لم يتبسم قط ولم يزل منذ ولاّه الله عزّ وجلّ جهنم يزداد كل يوم غضباً وغيظاً على أعداء الله عزّ وجلّ وأهل معصيته لينتقم منهم، قلت: ادنني منه. فأدناني منه فسلم عليه جبرئيل فلم يرفع رأسه فقال جبرئيل: يا مالك هذا محمّد رسول العرب فنظر اليَّ وحياني وبشرني بالخير. فقلت: مُذّ كم أنت واقف على جهنم؟ فقال: مذ خلقت حتّى الآن وكذلك إلى أن تقوم الساعة فقلت: يا جبرئيل مره ليرني طرفاً من النار فأمره ففعل فخرج منه لهب ساطع أسود معه دخان مكدر مظلم إمتلأ منه الآفاق فرايت هولا عظيماً وأمراً فظيعاً أعجز عن صفته لكم فغشيّ عليَّ وكاد يذهب نَفسي، فضمّني جبرئيل وأمر أن يرد النار فرّدها.
قال صلى الله عليه وسلم: «فجاوزناها فمررنا بملائكة كثيرة لا يحصى عدتهم إلاّ الله عزّ وجلّ منهم وجوه بين كتفيه ووجوه في صدره في كل وجه أفواه والسن، فهو يحمد الله ويسبحه بتلك الألسن ورأيت من أجسامهم وخلقهم وعبادتهم أمراً عظيماً، ثمّ جاوزناها فإذا برجل تام الخلق لم ينقص من خلقه شيء كما ينقص من خليقة الناس عن يمينه باب تخرج منه ريح طيبة وعن شماله باب تخرج منه ريح خبيثة إذا نظر إلى الباب الذي عن يمينه ضحك فإذا نظر إلى الباب الذي عن شماله بكى بحزن، فقلت: يا جبرئيل من هذا وما هذان البابان؟ قال: هذا أبوك آدم عليه السلام هذا الباب عن يمينه باب الجنة إذا نظر إلى من يدخل من ذريته الجنة ضحك واستبشر، والباب الذي عن شماله باب جهنم إذا نظر إلى من يدخل من ذريته جهنم بكى وحزن قال: ثمّ صعدنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبرئيل عليه السلام فقيل: من هذا؟ قال: جبرئيل. قيل ومَن معك؟ قال: محمّد، قيل: وقد أرسله الله.
قال: نعم. قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة فنِعم الأخ ونعِم الخليفة ونعم المجيء، فدخلنا فاذا بشابين فقلت: يا جبرئيل من هذان الشابان؟ فقال: هذا عيسى ويحيى أبناء الخالة. قال: ثمّ صعدت إلى السماء الثالثة فاستفتح فقالوا: من هذا؟ قال: جبرئيل. قيل ومَن معك؟ قال: محمّد. قالوا: وقد أُرسل محمّد؟ قال: نعم. قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة فنِعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء، فدخلنا فإذا برجل قد فُضّل على الناس بالحسن كأفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب قلت: من هذا يا جبرئيل؟ قال: هذا أخوك يوسف عليه السلام».
قال صلى الله عليه وسلم: «ثمّ صعد بي إلى السماء الرابعة فاستفتح قالوا: من هذا؟ قال: جبرئيل، قالوا: ومن معك؟ قال: محمّد. قالوا: وقد أُرسل محمّد؟ قال: نعم. قالوا: حيّاه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء، فدخلنا فإذا برجل من حاله كذا فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ قال: هذا إدريس رفعه الله مكاناً علياً وهو مسند ظهره إلى دواوين الخلائق التي فيها أمورهم.
قال: ثمّ صعد بي إلى السماء الخامسة فإستفتح قالوا: من هذا؟ قال: جبرئيل. قالوا: من معك؟ قال: محمّد قالوا: وقد أُرسل محمّد؟ قال: نعم. قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء.
قال: ثمّ دخلنا فإذا برجل جالس وحوله قوم يقصٌّ عليهم فقلت: ياجبرئيل من هذا؟ ومن هؤلاء الذين حوله؟ قال: هذا هارون المحبب وهؤلاء الذين حوله بنو إسرائيل».
قال «ثمّ صعدنا إلى السماء السادسة فإستفتح فقالوا: من هذا؟ قال: جبرئيل. قالوا: ومن معك؟ قال: محمّد؟ قالوا: وقد أُرسل محمّد؟ قال: نعم قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء، ثمّ دخلنا فإذا برجل جالس فجاوزناه فبكى الرجل فقلت: يا جبرئيل من هذا؟ قال: هذا موسى. قلت: فماله يبكي؟ قال: يزعم بنو إسرائيل أني أكرم بني آدم على الله عزّ وجلّ، وهذا رجل من بني آدم وقد خلفني في دنياه وأنا في أخرتي فلو أنه بنفسه لم أبال ولكن مع كل نبي أمته».
قال: «ثمّ صعد بي إلى السماء السابعة فاستفتح فقيل من هذا؟ قال: جبرئيل. قيل ومن معك؟ قال: محمّد. قالوا: وقد أرسل محمّد؟ قال: نعم. قالوا: حيّاه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء، ثمّ دخلنا فإذا برجل أشمط جالس على كرسي عند باب الجنة وعنده قوم جلوس بيض الوجوه أمثال القراطيس، وقوم في ألوانهم شيء [...] فقام الذين في ألوانهم شيء فدخلوا نهراً فاغتسلوا فيه فخرجوا منه وقد خلص من ألوانهم شيء، ثمّ دخلوا نهراً آخر فاغتسلوا فيه فخرجوا وقد خلص من ألوانهم وصارت مثل ألوان أصحابهم فجاءوا فجلسوا إلى جنب أصحابهم فقلت: يا جبرئيل من هذا الأشمط ومن هؤلاء وما هذه الأنهار؟ قال: هذا أبوك إبراهيم عليه السلام أوّل من شمط على الأرض، وأما هؤلاء البيض الوجوه فقوم لم يلبسوا إيمانهم بظلم، فأما هؤلاء الذين في ألوانهم شيء فقوم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً فتابوا فتاب الله عليهم، وأما الأنهار الثلاثة فأولها رحمة الله والثاني نعمة الله والثالث سقاهم ربهم شراباً طهوراً قال: فإذا إبراهيم مستند إلى بيت فسالت جبرئيل، فقال: هذا البيت المعمور يدخل فيه كل يوم سبعون الف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا إليه آخر ما عليهم. قال: فاتي بي جبرئيل حتّى إنتهينا إلى سدرة المنتهى فإذا أنا بشجرة لها أوراق الواحدة منها مغطية الدنيا بما فيها وإذا شقها مثل هلال هجر تخرج من أصلها أربعة أنهار نهران ظاهران ونهران باطنان فسألت عنها جبرئيل فقال: أما الباطنان ففي الجنة وأما الظاهرين فالنيل والفرات ويخرج أيضاً من أصلها {أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى} [محمد: 15] وهي على حد السماء السابعة مما الجنة وعروقها وأغصانها تحت الكرسي. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنتهيت إلى سدرة المنتهى وأنا أعرف أنها سدرة المنتهى وأعرف ورقها وثمرها فغشيها من نور الله ما غشيها وغشيتها الملائكة كأنهم جراد من ذهب من خشية الله تعالى فلما غشيها ما غشيها تحولت حتّى ما يستطيع أحد منعها، قال: وفيها ملائكة لا يعلم عدّتهم إلاّ الله عزّ وجلّ، ومقام جبرئيل في وسطها فلما إنتهيت إليها قال لي جبرئيل: تقدم. فقلت: أقدم من؟ تقدم أنت يا محمّد فإنك أكرم على الله مني، فتقدمت وجبرئيل على أثري حتّى انتهى بي إلى حجاب فراس الذهب فحرك الحجاب. فقال: من ذا؟ قال: أنا جبرئيل ومعي محمّد. قال الملك: الله أكبر فأخرج يده من تحت الحجاب فاحتملني وخلف جبرئيل فقلت له: إلى أين؟ قال: يا محمّد ومامنا إلاّ له مقام معلوم إن هذا منتهى الخلائق، وإنما أذن لي في الدنو إلى الحجاب لاحترامك ولجلالك.
قال: فإنطلق بي الملك أسرع من طرفة عين إلى حجاب اللؤلؤ فحرك الحجاب. قال الملك: من وراء الحجاب: من هذا؟قال: أنا صاحب فراس الذهب وهذا محمّد رسول العرب معي.
فقال الملك: الله اكبر وأخرج يده من تحت الحجاب فأحتملني حتّى وضعني بين يديه فلم أزل كذلك من حجاب إلى حجاب حتّى جاوزوا بي سبعين حجاباً غلظ كل حجاب مسيرة خمسمائة عام وما بين الحجاب إلى الحجاب مسيرة خمسمائة عام، ثمّ دلّى لي رفرف أخضر يغلب ضوءه ضوء الشمس فألتمع بصري ووضعت على ذلك الرفرف ثمّ إحتملني حتّى وصلني إلى العرش فلما رأيت العرش إتضح كل شيء عند العرش فقربني الله إلى سند العرش وتدلى لي قطرة من العرش فوقف على لساني فماذاق الذائقون شيئاً قط أحلى منها فأنباني الله عزّ وجلّ بها نبأ الأولين والآخرين وأطلق الله لساني بعد ما كلّ من هيبة الرحمن، فقلت: التحيات لله والصلوات الطيبات. فقال الله تعالى: سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فقلت: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فقال: يا محمّد هل تعلم فيم اختصم الملأ الأعلى؟ فقلت: أنت أعلم يارب بذلك وبكل شيء وأنت علام الغيوب. قال: اختلفوا في الدرجات والحسنات، فهل تدري يا محمّد ما الدرجات وما الحسنات؟ قلت: أنت أعلم يارب. قال: الدرجات إسباغ الوضوء في المكروهات والمشي على الأقدام إلى الجماعات وإنتظار الصلوات بعد الصلاة والحسنات إفشاء السلم وإطعام الطعام والتهجد بالليل والناس نيام ثمّ قال: يا محمّد آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه؟ قلت: نعم أي رب. قال: ومن؟ قلت: والمؤمنين {كُلٌّ آمَنَ بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} [البقرة: 285] كما فرقت اليهود والنصارى. فقال: ماذا قالوا؟
قلت: قالوا: سمعنا قولك وأطعنا أمرك. قال: صدقت فسل تعط. قال: فقلت: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير} [البقرة: 285] قال: قد غفرت لك ولأمتك سل تعطه؟ فقلت: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] قال: قد رفعت الخطأ والنسيان عنك وعن أمتك وما استكرهوا عليه، قلت: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286] قال: قد فعلت ذلك بك وبأمتك. قلت ربنا {واعف عَنَّا} [البقرة: 286] من الخسف {واغفر لَنَا} [البقرة: 286] من القذف {وارحمنآ} [البقرة: 286] من المسخ {أَنتَ مَوْلاَنَا فانصرنا عَلَى القوم الكافرين} [البقرة: 286] قال: قد فعلت ذلك لك ولأُمتك، ثمّ قيل: لي سل.
فقلت: يارب إنك إتخذت إبراهيم خليلاً، وكلمت موسى تكليماً، ورفعت إدريس مكاناً علياً، وآتيت سليمان ملكاً عظيماً، وآتيت داود زبوراً، فمالي يارب؟ قال ربي: يا محمّد اتخذتك خليلي كما اتخذت إبراهيم خليلاً وكلمتك كما كلمت موسى تكليماً وأعطيتك فاتحة الكتاب وخواتيم البقرة وكانا من كنوز العرش ولم أعطها نبياً قبلك، وأرسلتك إلى أهل الأرض جميعاً أبيضهم وأسودهم وإنسهم وجنّهم ولم أرسل إلى جماعتهم نبياً قبلك وجعلت الارض كلها برّها وبحرها طهوراً ومسجداً لك ولأمتك وأطعمتك وأمتك الفيء ولم أطعمه أمة قبلهم ونصرتك بالرعب على عدوك مسيرة شهر، وأنزلت عليك سيد الكتب كلها ومهيمناً عليها قرآناً فرقناه ورفعت لك ذكرك فتذكر كلما ذكرت في شرائع ديني، وأعطيتك مكان التوراة المثاني ومكان الانجيل المبين ومكان الزبور الحواميم، وفضلتك بالمفصّل وشرحت لك صدرك ووضعت عنك وزرك وجعلت أمتك خير أمة أخرجت للناس وجعلهم أمة وسطاً وجعلتهم الأولين وهم الآخرون فخذ ما أتيتك وكن من الشاكرين. قال صلى الله عليه وسلم ثمّ فوّض لي بعهد بعدها أمور لم يؤذن لي أن أخبركم بها ثمّ فرضت عليَّ وعلى أُمتي في كل يوم وليلة خمسون صلاة فلما شهد اليَّ بعهده وتركني عنده ما شاء قال لي: إرجع إلى قومك فبلغهم عني فَحملني الرفرف الأخضر الذي كنت عليه يخفضني ويرفعني حتّى أهوى بي إلى سدرة المنتهى فإذا أنا بجبرئيل عليه السلام أبصره خلفي بقلبي كما أبصر بعيني أمامي، فقال لي جبرئيل: ابشر يا محمّد فإنك خير خلق الله وصفوته من النبيين حياك الله بما لم يحيي به أحداً من خلقه لا ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً ولقد وضعك مكاناً لم يصل إليه أحد من أهل السماوات والأرض فهنّاك الله كرامته وما حباك من المنزلة الأثيرة والكرامة الفائقة، فخذ ذلك وإشكر فإن الله منعم يحب الشاكرين.
فحمدت الله على ذلك ثمّ قال لي جبرئيل: إنطلق يا محمّد إلى الجنة حتّى أُريك مالكَ فيها فتزداد بذلك في الدنيا زهادة إلى زهادتك وفي الآخرة رغبة إلى رغبتك فسرنا نهوي منفضين أسرع من السهم والريح حتّى وصلنا بإذن الله إلى الجنة فهدأت نفسي وثاب إليَّ فؤادي وأنشأت أسأل جبرئيل عما كنت رأيت في الجنة من البحور والنار والنور وغيرها، فقال: سبحان الله تلك سرادقات عرش رب العزة التي أحاطت بعرشه فهي سترة الخلائق من نور الحجب ونور العرش لولا ذلك لأحرق نور العرش ونور الحجب من تحت العرش من خلق الله ومالم تره أكثر وأعجب، قلت: سبحان الله ما أكثر عجائب خلقه.
قلت: يا جبرئيل ومن الملائكة الذين رأيتهم في تلك البحور الصفوف بعد الصفوف كأنهم بنيان مرصوص؟
قال: يا رسول الله هم الروحانيون الذين يقول الله: {يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة} [النبأ: 38] ومنهم الروح الأعظم، ثمّ بعد ذلك قلت: ياجبرئيل فمن الصف الواحد الذين في البحر الأعلى فوق الصفوف كلها قد أحاطوا بالعرش؟ قال: هم الكروبيون أشراف الملائكة وعظمائهم ولايجتري أحد من الملائكة أن ينظر إلى ملك من الكروبيين وهم أعظم شأنا من أن أصف صفتهم لك وكفى مارأيت منهم، ثمّ طاف بي جبرئيل في الجنة بإذن الله فما نزل منها مكاناً إلاّ رأيته وأخبرني عنه فرأيت القصور من الدر والياقوت والاستبرق والزبرجد ورأيت الأشجار من الذهب الأحمر قضبانهم اللؤلؤ وعروقهن الفضة راسخة في المسك فلأنا أعرف بكل قصر وبيت وغرفة وخيمة ونهر وثمر في الجنة مني بما في مسجدي هذا.
قال: ورأيت نهراً يخرج من أصله ماء أشد بياضاً من اللبن واحلى من العسل على رضراض دُرّ وياقوت ومسك أذفر. فقال جبرئيل: هذا الكوثر الذي أعطاك الله عزّ وجلّ وهو التسنيم يخرج من دورهم وقصورهم وبيوتهم وغرفهم يمزجون بها أشربتهم من اللبن والعسل والخمر فذلك قوله: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ} [المطففين: 27] {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله} [الإنسان: 6] الآية.
ثمّ انطلق بي يطوف في الجنة حتّى انتهينا إلى شجرة لم أر شجرة مثلها، فلما وقفت تحتها رفعت رأسي فإذا أنا لا أرى شيئاً من خلق ربي غيرها لعظمها وتفرق اغصانها ووجدت فيها ريحاً طيبة لم أشم في الجنة ريحاً أطيب منها فقلّبت بصري فيها فإذا ورقها حلل طرايف من ثياب الجنة من بين أبيض وأحمر وأخضر وثمارها أمثال القلال العظام من كل ثمرة خلقها الله في السماوات والأرضين من ألوان شتى وطعوم شتى وريح شتى، فعجبت من تلك الشجرة وما رأيت من حسنها. قلت: ياجبرئيل ما هذه الشجرة؟ قال: هذه التي ذكرها الله عز وجلّ وبشرى لهم {وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد: 29، ص: 25، 40] ولكثير من أمتك ورهطك في ظلها حسن مقيل ونعيم طويل ورأيت في الجنة مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر كل ذلك مفروغ عنه معدّ إنما ينتظر به صاحبه من أولياء الله عزّ وجلّ وما غمني الذي رأيت قلت: لمثل هذا فليعمل العاملون.
ثمّ عرض عليَّ النار حتّى نظرت إلى أغلالها وسلاسلها وحيّاتها وعقاربها وغساقها ويحمومها، فنظرت فإذا أنا بقوم لهم مشافر كمشافر الإبل وقد وكلّ بهم من يأخذ بمشافرهم، ثمّ يجعل في أفواههم صخراً من نار تخرج من أسافلهم. قلت: يا جبرئيل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً. ثمّ انطلقت فإذا أنا بنقر لهم بطون كأنها البيوت وهم على سابلة آل فرعون فإذا مرَّ بهم آل فرعون ثاروا فيميل بأحدهم بطنه فيقع فيتوطأهم آل فرعون بأرجلهم وهم يعرضون على النار غدواً وعشياً. قلت: من هؤلاء ياجبرئيل؟
قال: هؤلاء أكلة الربا ومثلهم كمثل {الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس} [البقرة: 275] ثمّ إنطلقت فإذا أنا بنساء معلقات بثديهن منكسات أرجلهن. قلت: من هؤلاء ياجبرئيل؟ قال: هن اللاتي يزنين ويقتلن أولادهن.
ثمّ أخرجني من الجنة فمررنا بالسموات منحدراً من السماء إلى السماء حتّى أتيت على موسى فقال: فما فرض الله عليك وعلى أمتك؟ قلت: خمسين صلاة. فقال موسى: أنا أعلم بالناس منك وأني سرت الناس بني إسرائيل وعالجتهم أشد المعالجة وأن أمتك أضعف الأمم فارجع إلى ربك واسأله التخفيف لأمتك فإن أمتك لن تطيق ذلك. قال: فرجعت إلى ربي».
وفي بعض الأخبار: «فرجعت فأتيت سدرة المنتهى فخررت ساجداً، قلت: يا رب فرضت عليَّ وعلى امتي خمسين صلاة ولن أستطيع أن أقوم بها ولا أمتي فخفّف عني عشراً. فرجعت إلى موسى فسألني فقلت: خفف عني عشراً. قال: ارجع إلى ربك فأسأله التخفيف فإن أمتك أضعف الأمم فإني قد لقيت من بني إسرائيل شدة. قال: فرجعت فردّها إلى ثلاثين فما زلت بين ربي وبين موسى عليه السلام حتى جعلها خمس صلوات فأتيت موسى عليه السلام فقال: إرجع إلى ربك فأسأله التخفيف. فقلت: فإني قد رجعت إلى ربي حتّى استحيت وما أنا براجع إليه، قال: فنوديت أني يوم خلقت السماوات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلوات، ولا يبدل القول لدي فخمسة بخمسين فقم بها أنت وأمتك إني قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي وأجزي بالحسنة عشر أمثالها لكل صلاة عشر صلوات. قال: فرضيَّ محمد صلى الله عليه وسلم كل الرضا وكان موسى عليه السلام من أشدهم عليه حين مرَّ به وخيرهم لهم حين رجع إليه.
ثمّ انصرفت مع صاحبي وأخي جبرئيل لايفوتني ولا أفوته حتّى انصرف بي إلى مضجعي وكان كل ذلك ليلة واحدة من لياليكم هذه فأنا سيد ولد آدم ولا فخر، وبيدي لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر وإليَّ مفاتيح الجنة يوم القيامة ولا فخر، وأنا مقبوض عن قريب بعد الذي رأيت فإني رأيت من آيات ربي الكبرى مارأيت وقد أحببت اللحوق بربي عزّ وجلّ ولقاء من رأيت من إخواني، وما رأيت من ثواب الله لأوليائه» {وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وأبقى} [القصص: 60].
قال: فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أُسري به وكان بذي طوى قال: «يا جبرئيل إن قومي لا يصدقونني».
قال: يصدقك أبو بكر وهو الصديق رضي الله عنه.
قال ابن عبّاس وعائشة رضى الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما كانت ليلة أُسري بي وأصبحت بمكة قطعت بأمري وعرفت إن الناس تكذبني».
قال: فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم معتزلاً حزيناً فمرَّ به أبو جهل عدو الله فأتاه فجلس إليه، وقال كالمستهزي: هل إستفدت من شيء؟ قال: «نعم إني أُسري بي الليلة» قال: إلى أين؟ قال: «إلى بيت المقدس» قال: ثمّ أصبحت بين ظهرانينا. قال: «نعم» فكان أبو جهل ينكر مخافة أن يجحده، الحديث. قال:أتحدث قومك ماحدثتني؟قال: «نعم» قال أبو جهل: يا معشر بني كعب بن لؤي هلمّوا.
قال: فأنتقضت المجالس فجاءوا حتّى جلسوا اليهما. قال: حدِّث قومك ماحدثتني. قال: «نعم إنّي أُسري بي الليلة». قالوا: إلى أين؟ قال: «إلى بيت المقدس». قال: ثمّ أصبحت بين ظهرانينا قال: «نعم». قال: فمن بين مصفق ومن بين واضع يده على رأسه متعجباً للكذب، فإرتد ناس ممن كان آمن به وصدقه وسعى رجال من المشركين إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالوا: هل لك في صاحبك يزعم أنه أسرى به الليلة إلى بيت المقدس؟.
قال: أوقد قال؟ قالوا: نعم. قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق. قالوا: تصدقه أنه ذهب إلى بيت المقدس في ليلة وجاء قبل أن يصبح؟ قال: نعم إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء في عدوه وروحه. فلذلك سمي أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
قال: وفي القوم من قد سافر هناك ومن قد اتى المسجد، فقالوا: هل تستطيع أن تصف لنا المسجد؟ قال: «نعم».
قال: فذهبت أنعت وأنعت فما زلت أنعت حتّى إلتبس عليَّ.
قال: «فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتّى وضع دون دار عقيل أو عقال فنعت المسجد وأنا أنظر إليه». فقال القوم: أما النعت فوالله قد أصاب.
ثمّ قالوا: يا محمّد أخبرنا عن عيرنا فهي أهم إلينا من قولك، هل لقيت فيها شيئاً؟ قال: «نعم مررت على عير بني فلان وهي بالروجاء وقد أضلوا بعيراً لهم وهم في طلبه وفي رحالهم قعب من ماء فعطشت فأخذته فقربته ثمّ وضعته كما كان فاسألوهم هل وجدوا الماء في القدح حين رجعوا إليه».
قالوا: إن هذه آية واحدة. قال: ومررت بعير فلان وفلان وفلان راكبان قعوداً لهما ببني مرة ففرآ بكرهما مني فرمى بفلان فإنكسرت يده فسلوهما عن ذلك.
قالوا: وهذه آية أخرى.
قالوا: أخبرنا عن عيرنا نحن؟ قال: «مررت بها بالنعيم». قالوا: فما عدتها وأحمالها وغنمها؟ قال: «كنت في شغل من ذلك ثمّ مثلت لي فكأنه بالجزورة وبعدتها وأحمالها وهيئتها ومن فيها فقال: نعم هيئتها كذا وكذا وفيها فلان وفلان تقدمها جعل أورق عليه خزارتان مخيطتان يطلع عليكم عند طلوع الشمس».
قالوا: وهذه آية، ثمّ خرجوا يشدّون نحو الثلاثة وهم يقولون: والله لقد قص محمّد شيئاً وبيّنه حتّى أتوا كداً فجلسوا عليه فجعلوا ينظرون متى تطلع الشمس فيكذبون، إذ قال قائل منهم: هذا الشمس قد طلعت. وقال الآخر: وهذه الإبل قد طاعت يتقدمها بعير أورق فيها فلان وفلان كما قال لهم، فلم يؤمنوا ولم يفلحوا وقالوا: ما سمعنا بهذا قط إن هذا إلاّ سحر مبين.
آخر المعراج ولله الحمد والمنة.
فإن قيل: إنما قال الله {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا} فَلِم قال: إنه أسرى إلى السماء.
فالجواب أنه قال: إنما قال: {أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا} كان ابتدأ أمر المعراج كان المسري، والعروج كان بعد الاسراء، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدق، والحكمة فيه والله أعلم أنه لو أخبر إبتدأ بعروجه إلى السماء لاشتد إنكارهم وعظم ذلك في قلوبهم ولم يصدقوه، فأخبر بيت المقدس بها فلما تمكن ذلك في قلوبهم وبَان لهم صدقة وقامت الحجة عليهم له، أخبر بصعوده إلى السماء العليا وسدرة المنتهى وبقرينة حتّى دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى {وَآتَيْنَآ مُوسَى الكتاب} كما أسرينا بمحمد صلى الله عليه وسلم {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} الآية يعني {أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً} ربّاً وشريكاً وكفيلاً.
قرأه العامّة: يتخذوا بالياء، يعني قلنا لهم لا يتخذوا.
وقرأ ابن عبّاس ومجاهد وأبو عمر: بالياء واختاره أبو عبيد قال: لأنه خبر عنهم {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} فأنجيناهم من الطوفان {إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً}.
قال المفسرون: كان نوح عليه السلام إذا لبس ثوباً يأكل طعاماً أو شرب شراباً. قال: الحمد لله، فسمّي عمداً شكوراً.
روى النظر بن شقي عن عمران بن سليم قال: إنما سمي نوح عليه السلام عبداً شكوراً لأنه كان إذا أكل طعاماً قال: الحمد لله الذي أطعمني ولو شاء أجاعني، فإذا شرب قال: الحمد لله الذي سقاني ولو أشاء أظماني وإذا اكتسى قال: الحمد ألله الذي كساني ولو أشاء أعراني، فإذا اهتدى قال: الحمد لله الذي هداني ولو أشاء لما هداني فإذا قضى حاجته قال: الحمد لله الذي أخرج عني الأذى في عافية ولو شاء لحبسه.


{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)}
{وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ} إلى قوله: {حَصِيراً}.
روى سفيان بن سهيل عن منصور بن المعتمر عن ربعي بن خراش قال: سمعت حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن بني إسرائيل لما إعتدوا وعتوا وقتلوا الأنبياء بعث الله عليهم ملك فارس بخت نصر، وكان الله ملكه سبعمائة سنة فسار اليهم حتّى دخل بيت المقدس فحاصرها ففتحها وقتل على دم يحيى بن زكريا عليه السلام سبعين ألف، ثمّ سبى أهلها وسلب حلي بيت المقدس واستخرج منها سبعين ألفاً ومائة عجلة من حلي حتى أورده بابل».
قال حذيفة: يارسول الله لقد كانت بيت المقدس عظيماً عند الله قال: «أجل بناه سليمان ابن داود من ذهب وياقوت وزبرجد، وكان بلاطه ذهباً وبلاطه فضة وبلاطه من ذهباً أعطاه الله ذلك وسخر له الشياطين يأتونه بهذه الأشياء في طرفة عين فسار بخت نصر بهذه الأشياء حتّى نزل بها بابل وأقام بنو إسرائيل في يديه مائة سنة يستعبدهم المجوس وأبناء المجوس فهم الأنبياء وابناء الأنبياء، ثمّ إن الله تعالى رحمهم فأوحى إلى ملك من ملوك فارس يقال له كورس وكان مؤمناً أن سر إلى بقايا ببني إسرائيل حتّى يستنقذهم فسبا كورش بني إسرائيل وحلي بيت المقدس حتّى رده إليه، فأقام بنو إسرائيل مطيعين لله مائة سنة ثم إنهم عادوا في المعاصي فسلط عليهم ملكاً يقال له: إنطياخوش فغزا بني إسرائيل حتّى أتى بهم بيت المقدس فسبا أهلها وأحرق بيت المقدس وقال لهم: يابني إسرائيل ان عدتم في المعاصي عدنا عليكم بالسبي، فعادوا في المعاصي فسلط الله عليهم ملكا رومية يقال له: ماقسير بن إسبيانوس فغزاهم في البر والبحر فسباهم وسبا حلي بيت المقدس وأحرق بيت المقدس».
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فهذا من صفة حلي بيت المقدس ويرده المهدي إلى بيت المقدس وهو الف سفينة وسبعمائة سفينة يرمى بها على يافا حتّى ينقل إلى بيت المقدس هديها يجمع الله الأولين والآخرين».
وقال محمّد بن إسحاق بن يسار: كان مما أنزل الله على موسى في خبر عن بني إسرائيل في أحداثهم وماهم فاعلون بعده {وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ} إلى قوله: {حَصِيراً} فكانت بنوا إسرائيل وفيهم الأحداث والذنوب، وكان الله في ذلك متجاوزاً عنهم متعطفاً عليهم محسناً اليهم، فكان أول ما أنزل بهم بسبب ذنوبهم من تلك الوقائع كما أخبر على لسان موسى عليه السلام أن ملكاً منهم كان يدعى صديقة كان الله عزّ وجلّ إذا ملك الملك عليهم بعث الله نبياً يسدده ويرشده ويكون فيما بينه وبين الله تعالى، فيتحدث إليهم في أمرهم لأنزل عليهم الكتب، إنما يؤمرون بإتباع التوراة والأحكام التي فيها وينهونهم عن المعصية ويدعونهم إلى ماتركوا من الطاعة، فلما ملك الله ذلك الملك بعث الله شعياء بن أمصيا وذلك قبل مبعث زكريا ويحيى وعيسى، وشعياء هو الذي بشّر بعيسى ومحمّد صلى الله عليه وسلم فقال: ابشروا [.
..] الآن يأتيك راكب الحمار ومن بعده راكب البعير، فملك ذلك الملك بني إسرائيل وبيت المقدس زماناً، فلما إنقضى ملكه عظمت الأحداث وشعياء معه، بعث الله عليهم سنحاريب ملك بابل مع ستمائة ألف راية، فأقبل سائراً حتّى أقبل حول بيت المقدس والملك مريض في ساقه قرحة فجاء إليه شعياء فقال: يا ملك بني إسرائيل إن نحاريب ملك بابل قد نزل هو وجنوده بستمائة الف قد هابهم الناس وفرقوا منهم، فكبر ذلك على الملك. فقال: يانبي الله هل أتاك وحي من الله فيما حدث فتخبرنا به كيف يفعل الله بنا وبسنحاريب وجنوده.
فقال له النبي عليه السلام: لم يأت وحي فبيناهم إلى ذلك أوحى الله تعالى إلى شعياء النبي عليه السلام أن أيت ملك بني إسرائيل فمره أن يوصي بوصيته ويستخلف على ملكه من شاء من أهل بيته، فأتى شعياء صدّيقة وقال له: إن ربك قد أوحى إليك إن أمرك أن توصي بوصيتك وتستخلف من شئت على ملكك من أهل بيتك فإنك ميت. فلما قال ذلك شعياء لصديقة أقبل على القبلة وصلى ودعا وبكى فقال وهو يصلي ويتضرع إلى الله تعالى بقلب مخلص متوكل رصين وظن صادق: اللهُمَّ رب الأرباب وإله الألهه قدوس المتقدس يارحمن يارحيم يارؤوف الذي لا تأخذه سنة ولا نوم أكرمتني بعملي وفعلي وحسن قضائي على بني إسرائيل وذلك كله كان منك وأنت أعلم به مني بسري وعلانيتي لك وأن الرحمن استجاب له وكان عبداً صالحاً، فأوحى الله إلى شعياء وأمره أن يخبر صديقة الملك أن ربه قد استجاب له وقبل منه ورحمه وقد أخر أجله خمس عشر سنة فأنجاه من عدوه سنحاريب ملك بابل وجنوده فأتاه شعياء النبي عليه السلام وأخبره بذلك، فلما قال ذلك ذهب عنه الوجع وانقطع عنه الحزن وخر ساجداً وقال: يا إلهي وإله آبائي لك سجدت وسبّحت وكرمت وعظمت، أنت الذي تعطي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء، عالم الغيب والشهادة أنت الأوّل والآخر والظاهر والباطن وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرين، أنت الذي أجبت دعوتي ورحمت ضري فلما رفع رأسه أوحى الله إلى شعياء أن قل للملك صديقه فيأمر عبداً من عبيده فيأتيه بالتين فيجعله على قرحه فيشفى ويصبح قديراً، ففعل ذلك فشفى، وقال الملك لشعياء: سل ربك أن يجعل لنا علماً بما هو صانع بعدونا هذا.
فقال الله لشعياء: قل له إني قد كفيتك عدوك وأنجيتك منهم وأنهم سيصبحون موتى كلهم إلاّ سنحاريب وخمسة نفر من كُتّابه.
فلما أصبحوا جاءه صارخ فصرخ على باب المدينة: يا ملك بني إسرائيل إن الله قد كفاك عدوك فأخرج فإن سنحاريب ومن معه هلكوا، فلما خرج الملك التمس سنحاريب فلم يوجد في الموتى فبعث الملك في طلبه فأدركه الطلب في مفازة ومعه خمسة من كُتّابه أحدهم بخت نصّر، فجعلوهم في الجوامع ثمّ أتوا بهم ملك بني إسرائيل فلما رآوهم خرَّ ساجداً حين طلعت الشمس إلى العصر، ثمّ قال لسنحاريب: كيف ترى فعل ربنا بكم؟ ألم نقتلكم بحوله وقوته ونحن وأنتم غافلون؟ فقال سنحاريب: قد أتاني خبر ربكم ونصره إياكم ورحمته التي رحمكم بها قبل أن أخرج من بلادك فلم أطع مرشداً ولم يلقني في الشقوة إلاّ قلة عقلي ولو سمعت وأطعت ما غزوتكم ولكن الشقوة غلبت عليَّ وعلى من معي. فقال صديقه: الحمد لله ربّ العزة الذي كفاناكم بما شاء أن يبقك لي من معك لكرامة لك عليه وإنما أبقاك ومن معك ليزدادوا شقوة في الدنيا وعذاباً في الآخرة ولتخبروا من ورائكم بما رايتم من فعل ربنا، فلذلك وذم من معك آتون على الله من دم قراد لو قتلت، ثمّ إن ملك بني إسرائيل أمر أمير جيشه فقذف في رقابهم الجوامع وطاف بهم سبعين ما حول بيت المقدس وامليا وكان يرزقهم في كل يوم خبزتين من الشعير لكل رجل منهم.
فقال سنحاريب لملك بني إسرائيل: القتل خير مما يفعل بنا فأفعل ما أُمرت، فأمر بهم الملك إلى سجن القتل فأوحى الله إلى شعياء النبي عليه السلام: أن قل لملك بني إسرائيل ليرسل سنحاريب ومن معه لينذروا من ورائهم وليكرمهم ويحملهم حتى يبلغوا بلادهم، فبلغ شيعا للملك ذلك ففعل، فخرج سنحاريب ومن معه حتّى قدموا بابل فلمّا قدموا جمع الناس فأخبرهم كيف فعل الله بجنوده، فقال له كهانته وسحرته: يا ملك بابل قد كنا نقص عليك خبر ربهم وخبر نبيهم ووحي الله إلى نبيهم فلم تطعنا، وهي أمة لا يستطيعها أحد مع ربهم، وكان أمر سنحاريب مما خوفوا، ثمّ كفاهم الله إياه تذكرة وعبرة ثمّ لبث سنحاريب بعد ذلك سبع سنين ثمّ مات، واستخلف بعده ابن إبنه على ما كان عليه، فعمل فيهم بمثل عمل جده وقضى في الملك حتّى قتل بعضهم بعضاً عليه ونبيهم شعياء معهم لا يذعنون إليه ولا يقبلون منه، فلما فعلوا ذلك قال الله لشعياء: قم في قومك أوحَ على لسانك.
فلما قام النبي عليه السلام أطلق الله لسانه بالوحي، فقال: ياسماء استمعي ويا أرض انصتي حتّى فإن الله يريد أن يقص شأن بني إسرائيل الذين رباهم بنعمة واسطنعهم لنفسه وخصهم بكرامته وفضلهم على عباده واستقبلهم بالكرامة وهم كالغنم الضائعة التي لا راعي لها، فآوى شاردتها وجمع ضالتها وجبر كسرها وداوى مريضها وأسمن مهزولها وحفظ سمينها، فلما فعل ذلك بطرت فتناطحت كباشها فقتل بعضهم بعضاً حتّى لم يبق منها عظم صحيح يجبر إليه آخر كسير، فويل لهذه الأُمة الخاطئة الذين لايدرون من أين جاءهم الخير، أن البعيد مما يذكر وطنه فينتابه وأن الحمار مما يذكر الآري الذي يشبع عليه فيراجعه وأن الثور مما يذكر المرج الذي سمن فيه فينتابه وأن هؤلاء القوم لا يدرون من أين جاءهم الخير وهم أولوا الألباب والعقول ليسوا بقراً ولا حميراً، وإني ضارب لهم مثلاً فليستمعوا، قل لهم: كيف ترون في أرض كانت خواء زماناً خربة مواتاً لا عمران فيها وكان لها رب حكيم قوي، فأقبل عليها بالعمارة وكره أن تخرب أرضه فأحاط عليها جداراً وشيّد فيها قصراً وأنبط نهراً وصنف فيها غراساً من الزيتون والرمان والنخيل والأعناب وألوان الثمار كلها، وولى ذلك واستحفظه قيماً ذا رأي وهمة ومتعة حفيظاً قوياً أميناً وانتظرها فلما أطلعت جاء طلعها خروباً قالوا: بئست الأرض هذه، نرى أن يهدم جدارها وقصورها ويدفن نهرها ويقبض قيّمها ويحرق غرسها حتّى تصير كما كانت أول مرة خراباً مواتاً لا عمران فيها.
قال الله لهم: فإن الجدار ذمتي وإن القصر شريعتي وإن النهر كتابي وإن القيّم نبيّ وإن الغرّاس هم وإن الخروب الذي أطلع الغراس أعمالهم الخبيثة وإني قد قضيت عليهم قضاءهم على أنفسهم، وإنهم مثلُ ضربه الله تعالى لهم يتقربون إليّ بذبح البقر والغنم وليس ينالني اللحم ولا أكله، ويدعون أن يتقربون إليّ بالتقوى والكف عن ذبح الأنفس التي حرمّتها فأيديهم مخضوبة منها، وثيابهم متزملة بدمائها، يشيدون لي البيوت مساجداً ويطهرون أجوافها وينجسون قلوبهم وأجسادهم ويدنسونها، فأي حاجة إلى تشييد البيوت ولست أسكنها، أم أي حاجة إلى تزويق المساجد ولست أدخلها إنما أُمرت برفعها لأُذكر فيها وأُسبّح ولتكون مَعْلَماً لمن أراد أن يصلي فيها، يقولون: لو كان الله يقدر على أن يجمع ألْفَتَنا لجمعها، ولو كان الله يقدر على أن يفقّه قلوبنا لفقهها فأعمد إلى عودين يابسين، ثمّ ائت بهما ناديهما في أجمع ما يكونون فقل للعودين: إن الله يأمركما أن تكونا عوداً واحداً ففعل، ذلك في مجلسه إختلطا فصارا واحداً، فقال الله لهم: إني قد قدرت على أن أفقه العيدان اليابسة وعلى أن أُؤالف بينهما فكيف لا أقدر على أن أجمع إلفهتم إن شئت، أم كيف لا أقدر على أن أفقّه قلوبهم وأنا الذي صورتها.
يقولون: صمنا فلم يرفع صيامنا وصلينا فلم تقبل صلاتنا وتصدقنا فلم تزك صدقاتنا، ودعونا بمثل حنين الحمام وبكينا مثل عواء الذئب في مكان ذلك لا نسمع ولا يستجاب لنا قال الله: فاسألهم ما الذي يمنعني أن أستجيب لهم، ألست أسمع السامعين وأُبصر الناظرين وأُقرب المجيبين وأرحم الراحمين؟ الآن ذلّت يدي؟ قلت: كيف ويداي مبسوطتان بالخير أُنفق كيف أشاء ومفاتح الخزائن عندي لا يفتحها غيري أو لأن رحمتي ضاقت فكيف ورحمتي وسعت كل شيء، إنما يتراحم المتراحمون بفضلها أو لأن البخل يعتريني أو لست أكرم الأكرمين والفتاح بالخيرات؟ أجود من أعطي وأكرم من سئل لو أن هؤلاء القوم نظروا لأنفسهم بالحكمة التي نورت في قلوبهم فنبذوها وإشتروا بها الدنيا إذاً لأبصروا من حيث أتو وإذاً لأيقنوا أن أنفسهم هي أعدى العُداة فيهم، فكيف أرفع صيامهم وهم يلبسونه بقول الزور ويتقوون عليه بطعمة الحرام؟ وكيف أُنور صلاتهم وقلوبهم صاغية إلى من يحاربني وينتهك محارمي، أم كيف تزكوا عندي صدقاتهم؟ وهم يتصدقون بأموال غيرهم وإنما أُؤجر عليها أهلها المغصوبين، أم كيف أستجيب لهم دعاءهم؟ وإنما هو قول بألسنتهم والفعل من ذلك بعيد وإنما أستجيب للداع اللين وأنا أسمع قول المستضعف المسكين، وإن من علامة رضاي رضا المساكين، فلو رحموا المساكين وقربوا الضعفاء وأنصفوا المظلوم ونصروا المغصوب والمغلوب وأعدلوا الغائب وأدوا إلى اليتيم والأرملة والمسكين وكل ذي حق حقه، ثمّ لو كان ينبغي أن أكلم البشر إذاً لكلّمتهم، وإذاً لكنت نور أبصارهم وسمع آذانهم ومعقول قلوبهم وإذاً لدعمت أركانهم وكنت قوة أيديهم وأرجلهم، وإذاً لبثت ألسنتهم وعقولهم.
يقولون: لمّا سمعوا كلامي وبلغتهم رسالاتي: إنها أقاويل متقولة وأحاديث متوارثة وتأليف كما يؤلف السحرة والكهنة، وزعموا أنهم لو شاؤا أن يأتوا بحديث مثله فعلوا وأن يطلعوا على علم الغيب، لاطلعوا بما توحي إليهم الشياطين وكلمهم ويستخفى بالذي يقول ويسرّ وهم يعملون أني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما يبدون وما كنتم يكتمون وإني قد قضيت يوم خلقت السماء والارض قضاء أثبته على نفسي وجعلت دونه أجلاً مؤجلاً لابد أنه واقع، فإن صدَّقوا بما ينتحلون من علم الغيب فليخبروك متى أنفذه أو في أي زمان يكون وإن كانوا يقدرون على أن يأتوا بما يشاؤون فليأتوا بمثل القدرة التي بها أمضيت فإني مظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
وإن كانوا يقدرون على أن يقولوا مايشاؤون فليألفوا مثل الحكمة التي أُدبّر بها أمر ذلك القضاء إن كنتم صادقين فإنّي قد قضيت يوم خلقت السماوات والأرض أن أجعل النبوة في الإجراء وأن أجعل الملك في الدعاء والعز في الأذلاء والقوة في الضعفاء والغنى في الفقراء والثروة في الأقلاء والمدائن في الفلوات والأجام في المغوز والبردة في الغيطان، والعلم في الجهلة والحِكَم في الأميين فسلهم متى هذا ومن القيّم بها وعلى يد مَن أسنّه ومن أعوان هذا الأمر وأنصاره إن كانوا يعلمون، فإني باعث لذلك نبيّاً أُحياً ليس أعمى من عميان ولا ضالا من ضالين وليس بفظ ولا غليظ ولا بصخاب في الأصوات ولا متزين بالفحش ولا قوال للخنى أُسدده لكل جميل أهب له كل خلق كريم أجعل السكينة لباسه والبر شعاره والتقوى ضميره والحكمة معقولة والصدق والوفاء طبيعته والعفو والمعروف خلقه والعدل والمعروف سيرته والحق شريعته والهدى امامه والاسلام ملته وأحمد اسمه أهدي به بعد الضلالة وأعلم به بعد الجهالة، ثمّ أرفع به بعد الخمالة وأشهر به بعد النكرة وأكثر به بعد القلة وأغني به بعد المعيلة وأجمع به بعد الفرقة وأولف به قلوباً مختلفة وأهواء متشتتة وأُمماً متفرقة وأجعل أمته خيرا أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر إيماناً بي وتوحيداً لي وإخلاصاً بي يصلون لي قياماً وقعوداً وركعاً وسجوداً ويقاتلون في سلبي صفوفاً وزحوفاً ويخرجون من ديارهم وأموالهم إبتغاء رضواني، ألهمتهم التكبير والتوحيد والتسبيح والحمد والمدحة والتمجيد لي في مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم، يكبرون ويهللون ويقدسون على رؤوس الأسواق ويطهرون لي الوجوه والأطراف ويعقدون في الأنصاف، قربانهم دماؤهم وأناجيلهم في صدورهم رهابين في الليل ليوث في النهار، ذلك فضلي أُدتيه من أشاء وأنا ذو الفضل العظيم.
فلما فرغ نبيهم شعياء اليهم من مقالته عَدَوْا عليه ليقتلوه فهرب منهم فلقيت شجرة وانفلقت له فدخل فيها وأدركه الشيطان الشجرة فأخذ بهدبة من ثوبه فأرآهم إياها فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتّى قطعوعها وقطعوه في وسطها، فإستخلف الله على بني إسرائيل بعد قتلهم شعياء رجلاً منهم يقال له ناشية بن أموص وبعث لهم الخضر نبياً واسم الخضر ارميا بن حلفيا وكان من سبط هارون بن عمران فأما سمي الخضر لانه جلس على فروة بيضاء فقام عنها وهي تهتز خضراء، فقال الله لارميا حين بعثه نبياً إلى بني إسرائيل: يا أرميا من قبل أن أخلقك إخترتك، ومن قبل أن أصورك في بطن أمك قدستك ومن قبل أن أخرجك من بطن أمك طهرتك، وذكر الحديث بطوله في خطبة أرميا لقومه وفتياه التي أفتى به، ودخول بُخت نصر وجنوده بيت المقدس فوطئ الشام كما ذكرنا في سورة البقرة.
فلما رأى ارميا ذلك طار حتّى خالط الوحش ودخل بخت نصّر وجنوده بيت المقدس فوطئ الشام وقتل بني إسرائيل حتّى أفناهم وخرب بيت المقدس، ثمّ أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم قربته تراب ثمّ يقذفه في بيت المقدس فقذفوا فيه التراب حتّى ملؤه، ثم إنصرف راجعاً إلى أرض بابل وإحتمل معه سبايا بني إسرائيل وأمرهم أن يجمعوا من كان في بيت المقدس كلهم فجمعوا عنده كل صغير وكبير من بني إسرائيل فاختار منهم بسبعين ألف صبي.
فلما خرجت غنائم جنده وأراد أن يقسمهم فيهم قالت له الملوك الذين كانوا معه: أيها الملك لك غنائمنا كلها وأقسم بيننا فلولا الصبيان الذين إخترتهم من بني إسرائيل، ففعل فأصاب كل رجل منهم أربعة غلمة وكان من أولئك الغلمان دانيال، وحنانيا، وعزاريا، وماشايل وسبعة آلاف من أهل بيت داود وأحد عشر ألفاً من سبط يوسف بن يعقوب وأخيه ابن يامين، وثمانية ألف من سبط أشر بن يعقوب، وأربعة عشر الفاً من سبط زبالون بن يعقوب ونفتال بن يعقوب وأربعة الف من سبط يهوذا بن يعقوب وأربعة ألف من سبط روبيل ولاوي إبني يعقوب ومن بقي من بني إسرائيل وجعلهم بخت نصر ثلاث فرق: فثلثا أقر بالشام وثلثاً سُبي وثلثا قتل.
وذهب بأبيه بيت المقدس حتّى أقدمها بابل وذهبت بالصبيان التسعين الألف حتّى أقدمهم بابل، فكانت هذه الواقعة الأولى التي أنزل الله ببني إسرائيل بأحداثهم وظلمهم وذلك قول الله {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} يعني بخت نصر وأصحابه.
ما يروى عن حجاج عن ابن جريج عن يعلي بن مسلم عن سعيد بن جبير قال: كان رجل من بني إسرائيل يقرأ حتّى إذا بلغ {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَآ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ} بكى وفاضت عيناه ثمّ أطبق المصحف وقال: أي رب أرني هذا الرجل الذي جعلت هلاك بني إسرائيل على يديه فأُري في المنام مسكيناً ببابل يقال له: بخت نصر فانطلق بمال وبأعبد له وكان رجلاً موسراً وقيل له أين تريد؟
قال: أريد النجارة حتّى نزل داراً ببابل فأستكبر إلهاً ليس فيها أحد غيره فجعل يدعو المساكين ويتلطف بهم حتى لا يأتيه أحد فقال: هل بقيَّ غيركم مسكين؟ قالوا: نعم مسكين يفتح الفلان مريض يقال له: بخت نصر، فقال لغلمانه: انطلقوا حتى أتاه، فقال: ما أسمك؟ قال: بخت نصر، فقال لغلمانه إحتملوه فنقل عليه فمرّضه حتّى برأ فكساه وأعطاه نفقة ثمّ أذن الاسرائيلي بالرحيل فبكى بخت نصر، فقال الاسرائيلي: ما يبكيك؟
قال: أبكي إنك فعلت بي مافعلت ولا أجد شيئاً أجزيك، قال: بلى شيئاً يسراً إن ملكت أطعتني فجعل لا يتبعه فيما سأل فقال: تستهزيء بي ولا يمنعه أن يعطيه ما سأل إلاّ أنه يرى أنه يستهزيء به قبلي الاسرائيلي، فقال: لقد علمت ما يمنعك أن تعطيني ما سألتك إلاّ أن الله يريد أن ينفذ ما قد قضى وكتب في كتابه وضرب الدهر من ضربه.
قال صيحورا ملك فارس ببابل: لو إنا بعثنا طليعة إلى الشام قالوا: وما ضرك لو فعلت؟ قال فمن ترون قال: فلان فبعث رجلاً وأعطاه مائة ألف وخرج بخت نصر في مطبخه لا يخرج إلاّ ليأكل في مطبخه.
فلما قدم الشام رأى صاحب الطليعة أكثر أرض الله فرساً ورجالاً جاء وقد كسر ذلك في ذرعه فلم يسأل قال: فجعل بخت نصر يجلس مجالس أهل الشام فيقول: ما يمنعكم أن تغزوا بابل فإذا غزوتموها مادون بيت مالها شيء.
قالو: لا نحسن القتال، قال: ولو أنكم غزوتهم قالوا: لا نحسن القتال ولا نقاتل حتّى أنفذ مجالس أهل الشام، ثمّ رجعوا فأخبر الطليعة ملكهم بما رأى وجعل بخت نصر يقول لفوارس الملك: لو دعاني الملك لأخبرته غير ما أخبره فلان، فرفع ذلك إليه فدعاه فأخبره الخبر وقال: إن فلاناً لما رأى أكثر أرض الله فرساً ورجالا جلداً كبر ذلك في روعه ولم يسألهم عن شيء، قال: لم أدع مجلساً شيئاً بالشام الاجال واصله فقلت لهم: كذا وكذا، فقالوا لي: كذا وكذا.
قال سعيد بن جبير: وقال صاحب الطليعة لبخت نصر: إن صحبتني أعطي لك مائة الف وتنزع عما قلت. قال: لو أعطيتني بيت مال بابل لما نزعت فضرب الدهر من ضربة، فقال الملك: لو بعثنا جريدة خيل إلى الشام، فإن وجدوا مساغاً وإلا انثنوا ما قدورا عليه، قال: وما ضرّك لو فعلت، قال: فمن ترون؟ قالوا: فلان. قال: هل الرجل الذي أخبرني بما أخبرني فدعا بخت نصر فأرسله وانتخب معه أربعمائة ألف من فرسانهم فانطلقوا {فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار} فسبوا ما شاء الله ولم يخربّوا ولم يقتلوا، ومات صيحون فقالوا: استخلفوا رجلاً، قالوا: على رسلكم حتّى يأتي أصحابكم فإنهم فرسانكم لن ينقضوا عليكم شيئاً، أمهلوا فأمهلوا حتّى جاء بخت نصر بالسبي وما معه فقسمه في الناس، فقالوا: ما رأينا أحداً أحق بالملك من هذا فملكوه.
وقال السدي بإسناده: إن رجلاً من بني إسرائيل رأى في النوم أن خراب بيت المقدس هلاك بني إسرائيل خلي إليَّ غلام يتيم ابن أرملة من أهل بابل يدعى بخت نصر وكانوا يصدقون فيصدق، فأقبل يسأل عنه حتّى نزل على أبيه وهو يحتطب فلما جاءوا على رأسه حزمة من حطب ألقاها ثمّ قعد في جانب من البيت فكلمه ثمّ أعطاه ثلاثة دراهم، فقال: اشتر بهذا طعاماً وشراباً وإشتري بدرهم لحماً وبدرهم خبزاً وبدرهم خمراً، فأكلوا وشربوا حتّى كان اليوم الثاني فعل به مثل ذلك، حتّى إذا كان اليوم الثالث فعل به ذلك، ثمّ قال: إني أحب أن تكتب لي أمانا إن كانت ملكت يوماً من الدهر، فقال: أتسخر مني؟ قال: إني لا أسخر بك ولكن ما عليك لن تتخذ بها عندي مريدا فكلمته أية، فقالت: يا ملك إن كان مالاً لم ينقصك شيئاً فيكتب به أماناً، فقال: أرأيت إن جئت والناس حولك قد حالوا بيني وبينك فاجعل لي أية تعرفني بها، قال: ترفع صحيفتك على قصبة فأعرفك بها فكساه وأعطاه.
ثمّ إن ملك بني إسرائيل كان يكرم يحيى بن زكريا عليهما السلام ويدني مجلسه ويستشيره في أمره ولا يقطع أمراً دونه فإنه هوى أن يتزوج ابنت إمرأة له، فسأل عن ذلك يحيى فنهاه عن نكاحها، قال: لست أرضاها لك، فبلغ ذلك أمها فحقدت على يحيى حين نهاه أن يتزوج ابنتها فذهبت إلى جارية حين حس الملك على شرابه، فألبستها ثياباً رقاقاً خضراء وطيبتها والبستها من الحلي والبستها فوق ذلك كساء أسود فأرسلتها إلى الملك وأمرتها أن تسقيه وأن تتعرض له فإن راودها عن نفسها أتت عليه حتّى يعطيها ما سألته، فإذا أعطاها ذلك سألته أن يأتي برأس يحيى بن زكريا عليهما السلام في طشت، ففعلت فجعلت تسقيه وتعرض له فلما أخذ منه الشراب راودها عن نفسها، فقالت: لا أقبل حتّى تعطيني ما أسألك، قال: ما تسألين؟ قالت: أسألك أن تبعث إليَّ يحيى بن زكريا فتأتي برأسه في هذا الطشت، فقال الملك: سليني غير هذا.
قالت: ما أُريد إلاّ هذا، فلما أبت عليه بعث إليه فأتى برأسه والرأس يتكلم في الطشت حين وضع بين يديه وهي تقول لا يحل لك، فلما أصبح إذا دمه يغلي فأمر بتراب فألقى عليه فرمى الدم فوقه فلم يزل يلقي عليه من التراب حتّى بلغ سور المدينة وهو يغلي وبلغ صيحابين فثار في الناس وأراد أن يبعث إليهم جيشاً أو يؤمر عليهم رجلاً.
فأتاه بخت نصر فكلمه وقال: إن الذي كنت أرسلته تلك المرة ضعيف وأني قد دخلت المدينة وسمعت كلام أهلها فأبعثني فبعثه فسار بخت نصر حتّى إذا بلغوا ذلك المكان تحصنوا منه في مدائنهم فلم يطقهم فلما اشتّد عليهم المقام وجاع أصحابه أرادوا الرجوع، فخرجت إليه عجوزاً من عجائز بني إسرائيل فقالت: أين أمير الجند؟ فأتى بها إليه فقالت له: إنه قد بلغني أنك تريد [.....] ثمّ ترجع بجندك قبل أن تفتح هذه المدينة، قال: نعم، قد طال مقامي وجاع أصحابي فلست أستطيع المقام فوق الذي كان مني، فقالت: أرأيتك إن فتحت لك المدينة أتعطيني ما أسألك فتقتل من أمرتك بقتله وتكف إن أمرتك أن تكف؟ قال لها: نعم، قالت: إذا أصبحت فأقسم جندك أربعة أرباع ثمّ أقم على كل زاوية ربعاً ثمّ إرفعوا أيديكم إلى السماء فنادوا: إنا نستفتحك يا الله بدم يحيى بن زكريا فإنها سوف تساقط، ففعلوا فتساقطت المدينة ودخلوا من جوانبها فقالت له: كف يدك وأقبل على هذا الدم حتّى يسكن وإنطلقت به إلى دم يحيى وهو على تراب كثيرة فقتل عليه حتّى سكن فقتل سبعين ألفاً فلما سكن الدم، قالت له: كف يدك فإن الله تعالى إذا قتل نبي لم يرض حتّى يقتل من قتله ومن رضى قتله، وأتاه صاحب الصحيفة بصحيفة فكف عنه وعن أهل بيته وخرب بيت المقدس وأمر أن يطرح الجيفة فيه، وقال: من طرح جيفة فيه فله جزيته تلك السنة وأعانه الله على خرابة الروم من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى.
فلما خربه بخت نصر ذهبت معه بوجوه بني إسرائيل وأشرافهم وذهب بدانيال وعليا وعزاريا وميشائيل هؤلاء كلهم من أولاد الأنبياء وذهب معه برأس جالوت، فلما قدم أرض بابل وجد صحابين قد مات فملك مكانه وكان أكرم الناس عليه دانيال وأصحابه حسدهم المجوس على ذلك فوشوا بهم إليه وقالوا: إن دانيال وأصحابه لا يعبدون إلهك وإنما يعبدون غيره ولا يأكلون ذبيحتك فدعاهم فسألهم فقالوا: أجل إن لنا رباً نعبده ولسنا نأكل من ذبيحتكم فأمر بحد فخدّ لهم فألقوا فيه وهم ستة وألقى معهم سبعاً ضارياً ليأكلهم، ففعلوا ذلك فانطلقوا ليأكلوا ويشربوا فذهبوا فأكلوا وشربوا ثمّ راحوا فوجدوهم جلوساً والسبع معترش ذراعيه بينهم لم يخدش منهم أحداً ولم ينكأه شيئاً ووجدوا معهم رجلاً فعدوهم فوجدوهم سبعة فقالوا: ما بال هذا السابع وإنما كانوا ستة فخرج إليهم السابع وكان ملكاً من الملائكة فلطمهُ لطمة فصار في الوحش ومسخه الله سبع سنين فيه.
ثمّ إن بخت نصر رأى رؤيا عبّرها له دانيال عليه السلام، وهو ماروى إسماعيل بن عبد الكريم عن عبد الصمد بن معقل أنه سمع راهباً يقول: إن بخت نصر رأى في آخر زمانه صنماً رأسه من ذهب وصدره من فضة وبطنه من نحاس وفخذاه من حديد وساقاه من فخار، ثمّ رأى حمراً من السماء وقع عليه قذفه ثمّ أتاه الحجر حتّى ربا فملئ ما بين المشرق والمغرب، ورأى شجرة أصلها في الارض وفروعها في السماء ثمّ رأى رجلاً بيده فأس، وسمع منادياً ينادي: اضرب بجذعها لتفرق الطير من فروعها وتفرق الدواب والسباع من تحتها، وأنزل [...] عبرها له دانيال عليه السلام.
قال: أما الصنم الذي رأيت فأتيت الرأس الذهب فأنت أفضل الملوك، وأما الصدر الذي رأيت من فضة فإبنك يملك من بعدك، وأما البطن الذي رأيت من نحاس فذلك يكون من بعد إبنك وأما رأيت من الفخذ من حديد فهو ملك أهل فارس يكون ملكهم شديداً مثل الحديد، وأما الرجل من فخار فتفرق أهل فارس فرقتين ولا يكون فيهم حينئذ قوام كما لم يلين قوام الصنم على رجلين من فخار، وأما الحجر الذي ربا حتّى ملأ مابين المشرق والمغرب فنبي يبعثه الله في آخر الزمان فيفرق ملكهم كله فيربوا ملكه حتّى يكون ما بين المشرق والمغرب.
وأما الشجر الذي رأيت والطير الذي عليها والسباع والدواب التي تحتها وما أمر بقطعها فيذهب ملكك فيردك الله طائراً يكون شراً ملك الطير ثمّ يردك ثوراً ملك الدواب ثمّ يردك الله أسداً ملك السباع والوحش سبع سنين كان مسخه كله سبع سنين.
في ذلك كله قلبك قلب إنسان حتّى تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وهو يقدر على الأرض ومن عليها، وما رأيت أصلها قائماً فإن ملكك قائم، فمسخ بخت نصر نسراً من الطير وثوراً من الدواب واسداً من السباع ثمّ ردّ الله إليه ملكه فأمن ودعا الناس إلى الله.
وسئيل وهب بن منبه أكان مؤمناً؟ قال: وجدت أهل الكتاب قد اختلفوا فيه، فمنهم من قال: مات مؤمناً، ومنهم قال: أحرق بيت الله وكتبه وقيد الأنبياء، وغضب الله عليه غضباً، فلم يقبل منه حينئذ توبته.
وقال بخت نصر لما رجع إلى صورته ثانية بعد المسخ فرّد الله إليه ملكه: كان دانيال وأصحابه أكرم الناس عليه فحسدتهم المجوس وقالوا لبخت نصر: إن دانيال إذا شرب الخمر لم يملك نفسه أن يبول، وكان ذلك فيهم عاراً فجعل لهم بخت نصر طعاماً فأكلوا وشربوا وقال للبواب: أنظر أول من يخرج عليك ليبول فاضربه بالطبرزين وإن قال: أنا بخت نصر، فقل: كذبت بخت نصر أمرني به فحبس الله عن دانيال البول وكان أول من قام من القوم يريد البول بخت نصر وكان مدلاً وكان ليلاً، فقام يسحب ثيابه فلما رآه البوّاب شد عليه فقال: أنا بخت نصر قال: كذبت بخت نصر أمرني أن أقتل أول من يخرج فضربه فقتله.
وأما محمّد بن إسحاق بن يسار فإنه قال: في هلاك بخت نصر غير ما قال السدي، وذلك أنه قال بإسناده: لما أراد الله [.......] ليبعث فقال لمن كان في [......] وكان يعذبه من بني إسرائيل: أن أتتم هذا البيت الذي خربته وهؤلاء الناس الذين قلت من هم وما هذا البيت، فقالوا: هذا بيت الله ومسجد من مساجده وهؤلاء أهله، كانوا من ذراري الأنبياء وظلموا وتعذروا وعصوا عليهم بذنوبهم وكان ربهم رب السماوات والأرض ورب الخلق كلهم يكرههم ويمنعهم ويحرمهم، فلما فعلوا ما فعلوا أهلكهم الله وسلط عليهم غيرهم.
قال: فأخبروني ما الذي يطلع بي إلى السماء العليا لعلي أطلع عليها فأقبل من فيها واتخذها ملكاً فإني قد فرغت من الأرض ومن فيها، قالوا: ما يقدر عليه أحد من الخلائق، قال: لتفعلن أو لأقتلنكم عن آخركم فبكوا إلى الله وتضرعوا إليه، فبعث الله عليه بقدرته بعوضة ليرى ضعفه وهوانه فدخلت في منخره ثمّ سلفت في منخره حتّى عضت بأم الدماغ، فما كان يقر ولا يسكن حتّى توجأ له رأسه على أم دماغه فلما عرف الموت قال لخاصته من أهله: إذا مت فشقوا رأسي وانظروا ما هذا الذي قتلني، فلما مات شق رأسه فوجد البعوضة عاضة بأم دماغه، ليرى الله العباد قدرته وسلطانه ويحيى الله من كان بقي في يديه من بني إسرائيل وترحم عليهم وردهم إلى إيليا والشام فبنوا فيها وأربوا وكثروا حتّى كانوا على أحسن ما كانوا عليه.
ويزعمون أن الله تعالى اختار توليت الموتى الذين قتلوا ولحقوا بهم، ثمّ إنهم لما رجعوا إلى الشام وقد أحرق التوراة وليس معهم عهد من الله جدد الله توراته وردها عليهم على لسان عزير عليه السلام وقد مضت القصة، فهذا الذي ذكرت جميع أمر بخت نصر على ما جاء في التفسير المعتمد في أخبار الأنبياء، إلاّ أن رواية من روى أن بخت نصر هو الذي غزا بني إسرائيل عند قتلهم يحيى بن زكريا غلط أهل السير والأخبار والعلم بأُمور الماضين من أهل الكتاب والمسلمين، ذلك أنهم مجمعون على أن بخت نصر غزا بني اسرائيل عند قتلهم نبيهم شعياء وفي عهد أورميا بن حلفيا عليه السلام وهي الوقعة الأولى التي قال الله {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} يعني بخت نصر وجنوده، قالوا ومن عهد أروميا وتخريب بخت نصر بيت المقدس إلى عهد يحيى بن زكريا أربعمائة وإحدى وستون سنة، وذلك أنهم يعدون من لدن تخريب بخت نصر بيت المقدس إلى حين عمارته في عهد كوسك سبعين سنة، ثمّ من بعد عمرانه إلى ظهور الإسكندر على بيت المقدس وحيازة ملكها إلى مملكة الإسكندر ثمانية وثمانين سنة، ثمّ من بعد مملكة الاسكندر إلى موت يحيى بن زكريا عليه السلام بثلثمائة وثلاث وستون، ويروى بثلاثمائة سنة وثلاث سنين.
وإنما الصحيح من ذلك ماذكر محمّد بن إسحاق بن يسار قال: كثر عن بني إسرائيل بعدما عمرت الشام وعادوا إليها بعد اخراب بخت نصر إياها وسبيهم منها، فجعلوا بعد ذلك يحدثون الأحداث بعد مهلك عزير عليه السلام ويتوب الله عليهم وبعث الله فيهم الأنبياء وفريقاً يكذبون وفريقاً يقتلون حتّى كان آخر من بعث الله فيهم من أنبيائهم زكريا ويحيى وعيسى وكانوا من بيت آل داود، فمات زكريا وقتل يحيى بسبب رغبة الملك عن نكاح ابنته، في قول عبد الله ابن الزبير وابنت أخته في قول السدي وابنت أخيه في قول ابن عبّاس.
وهو الأصح إن شاء الله، لِما روى الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير قال: بعث عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا في إثنى عشر من الحواريين يعلمون الناس، وكان مما نهوهم نكاح بنت الأخ، قال: وكانت لملكهم ابنت أخ تعجبه يريد أن يتزوجها وكانت لها في كل يوم حاجة يقضيها، وذكر الحديث بطوله في مقتل يحيى.
رجعنا إلى حديث ابن إسحاق، فلما رفع الله موسى من بين أظهرهم وقتلوا يحيى بن زكريا، وبعض الناس يقول: قتلوا زكريا انبعث عليهم ملك من ملوك بابل يقال له: خردوس فسار إليهم بأهل بابل حتّى دخل عليهم الشام، فلما ظهر عليهم أمر رأساً من رؤوس جنوده يدعى نبور زاذان صاحب القتل فقال له: إني قد كنت حلفت بإلهي لئن أنا ظهرت على أهل بيت المقدس لأقتلنهم حتّى تسيل دماؤهم في وسط عسكري، إلاّ أني لا أجد أحداً أقتله، فأمره ان يقتلهم حتّى يبلغ ذلك منهم نبور زاذان، فدخل بيت المقدس وكان في البقعة التي كانوا يقربون فيها قربانهم فوجد فيها دماً يغلي فسألهم عنه، قالوا: هذا دم قربان قربناه فلم يقبل منا فلذلك هو يغلي كما تراه ولقد قربنا منذ ثمانمائة سنة القربان فتقبل منا إلاّ هذا القربان، قال: ما صدقتموني الخبر قالوا له: لو كان كأول زماننا لقبل منا ولكنه قد انقطع منا الملك والنبوة والوحي فلذلك لم يتقبل منا فذبح منهم نبور زاذان على ذلك الدم سبعمائة وسبعون رأساً من رؤسائهم فلم يهدأ فأمر بسبعة آلاف من شيعهم وأزواجهم فذبحهمعلى الدم فلم يبرد ولم يهدأ فلما رأى نبور زاذان أن الدم لا يهدأ قال لهم: ويلكم يابني إسرائيل أصدقوني واصبروا على أمر ربكم فقد طال ما ملكتم في الأرض، تفعلون فيها ما شئتم قبل أن لا أترك نافخ نار لا أنثى ولا ذكر إلا قتلته فلما رأوا الجهد وشدة القتل صدقوهُ القول فقالوا له: إن هذا دم نبي منا كان ينهاها عن أمور كثيرة من سخط الله فلو أطعناه فيها لكان أرشد لنا وكان يخبرنا بالملك فلم نصدقه فقتلناه فقال لهم نبور زاذان: ماكان اسمه؟ قال: يحيى بن زكريا، قال: وهل صدقتموني، بمثل هذا ينتقم منكم ربكم، فلما رأى نبور زاذان أنهم قد صدقوه خرَّ ساجداً وقال لمن حوله: اغلقوا أبواب المدينة واجمعوا من كان هاهنا من جيش خردوس وخلا في بني إسرائيل.
قال: يا يحيى بن زكريا قد علم ربي وربك ما قد أصاب قومك من أجلك وما قتل منهم من أجلك فاهدأ بأذن الله قبل أن لا يبقي من قومك أحد، فهدأ دم يحيى بن زكريا بإذن الله، ورفع نبور زاذان عنهم القتل وقال: آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل وصدقت به وأيقنت أنه لا رب غيره، ولو كان معه آخر لم يصلح ولو كان له شريك لم تستمسك السموات والأرض، ولو كان له ولد لم يصلح، فتبارك وتقدس وتسبح وتكبر وتعظم ملك الملوك الذي له ملك السموات السبع والأرض وما فيهن وما بينهن، وهو على كل شيء قدير فله الحكم والعلم والعزة والجبروت وهو الذي بسط الأرض وألقى فيها رواسي لئلا تزول، فكذلك ينبغي لربي أن يكون ويكون ملكه فأوحى الله تعالى إلى رؤس من رؤوس بقية الأنبياء أن نبور زاذان حبور صدوق.
وأن نبور زاذان قال لبني إسرائيل: يابني إسرائيل إن عدو الله خردوس أمرني أن أقتل منكم حتّى تسيل دماءكم وسط عسكره وإني لست أستطيع أن أعصيه قالوا له: إفعل ما أُمرت به فأمرهم فحفروا خندقاً وأمر بأموالهم من الخيل والبغال والحمير والإبل والبقر والغنم فذبحها حتّى سال الدم في العسكر وأمر بالقتلى الذين كانوا قتلوا قبل ذلك فطرحوا على ما قتل من مواشيهم حتّى كانوا فوقهم، فلم يظن خردوس إلا أن ما كان في الخندق من بني إسرائيل فلما بلغ الدم عسكره أرسل إلى نبور زاذان أن أرفع عنهم القتل فقد بلغني دماؤهم وقد انتقمت منهم لما فعلوا ثمّ إنصرف عنهم إلى بابل وقد أفنى بني إسرائيل أو كاده، وهو الوقعة الاخيرة التي أنزل الله ببني إسرائيل في قوله: {وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ} الآيات.
وكانت الوقعة الأولى: بخت نصر وجنوده ثمّ ردَّ الله لهم الكرة عليهم وكانت الوقعة الاخيرة خردوس وجنوده فلم [.......] همام بعد ذلك [.......]. فانتقل الملك بالشام ونواحيها إلى الروم واليونان، ثم إن بني إسرائيل كثروا وانتشروا بعد ذلك وكانت لهم ببيت المقدس بزواجها على غير وجه الملك وكانوا في أُهبة ومِنْعَة إلى أن بدلوا وأحدثوا الأحداث وانتهكوا المحارم وضربوا الحدود فسلط الله عليهم ططوس بن سيبانو الرومي، فأخرب بلادهم وطردهم عنها ونزع الله عنهم الملك والرئاسة وضرب عليهم الذلة، فليسوا في أمة من الأمم إلاّ وعليهم الصغار والملك في غيرهم وبقي بيت المقدس خراباً إلى أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمّره المسلمين بأمره.
وروى أبو عوانة عن أبي بشير قال: سألت سعيد بن جبير عن قوله تعالى: {وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب} الآيات، فقال: أما الذين {فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار} فكان مرحا بن الجزري فإذا جاء إلى قوله: {تَتْبِيراً} فكان جالوت الجزري شعبة من [.......].
ثمّ قال: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة} إلى قوله: {تَتْبِيراً} قال: هذا بخت نصر الذي خرب بيت المقدس.
ثمّ قال لهم بعد ذلك {عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ} على هذا ثمّ {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} قال فعادوا فعيد عليهم فبعث الله عليهم ملك الروم ثمّ عادوا أيضا فعيد عليهم فبعث الله عليهم ملك [........] ثمّ عادوا أيضاً فعيد عليهم سابور ذو الاكتاف.
قتادة في هذه الآية {وقضينا} قضى على القوم كما تسمعون فبعث عليهم في الأولى جالوت، فسبى وقتل وخرب {فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار}، ثمّ رددنا لكم يعني يا بني إسرائيل الكرة عليهم والملك في زمان داود عليه السلام {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة} آخر الكرتين بعث الله عليم بخت نصر أبغض خلق الله، فسبى وقتل وخرب بيت المقدس وسامهم سوم العذاب، ثمّ قال: {عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ} فعاد الله إليهم برحمته ثمّ عاد الله إليهم بشر بما عذبهم، فبعث الله عليهم ما شاء أن يبعث من آفته وعقوبتة، ثمّ بعث الله عليهم هذا الحي من العرب كما قال: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القيامة مَن يَسُومُهُمْ سواء العذاب} [الأعراف: 167] [.....].
{وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب} أي أخبرناهم وعلمناهم في ما آتيناهم من الكتب.
وقال ابن عبّاس وقتادة: يعني وقضينا عليكم، وعلى هذا التأويل يكون {إلى} بمعنى على وبمعنى بالكتاب اللوح المحفوظ، {لَتُفْسِدُنَّ} قيل: لام القاسم مجازة: والله لتفسدن في الأرض مرتين بالعاصي {وَلَتَعْلُنَّ} ولتستكبرن ولتظلمن الناس {عُلُوّاً كَبِيراً * فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا} يعني أولي المرتين واختلفوا فيها فعلى قول قتادة: إفسادهم في المرة الأولى ما خالفوا من أحكام التوراة وحكموا ربهم ولم يحفظوا أمر نبيهم موسى عليه السلام وركبوا المحارم وتعدوا على الناس.
وقال السدي: في خبر ذكره عن أبي مالك وأبي جهل عن ابن عبّاس وعن أمية الهمذاني عن ابن مسعود: إن أول الفسادين قتل زكريا.
وقال ابن إسحاق: إن إفسادهم في المرة الأولى قتلهم شعياء بن أمصيا في عهد أرمياء في الشجرة.
وقال ابن إسحاق: إن بعض أهل العلم أخبره أن زكريا مات موتاً ولم يقتل وأن المقتول هو شعياء عليه السلام.
{بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ} يعني جالوت الجزري وجنوده وهو الذي قتله داود.
قال قتادة: وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس، وقال أبو المعلى ويعلى عن سعيد بن جبير: هم صحاريب من أهل نينوى، وهي الموصل.
أبو بشير عنه: صرخان الخزري، وقال: ابن إسحاق: بخت نصر البابلي وأصحابه.
{أُوْلِي بَأْسٍ} يعني بطش، وفي الحرب {شَدِيدٍ فَجَاسُواْ} أي خافوا وداروا.
قال ابن عبّاس: مشوا، الفراء: قتلوكم بين بيوتكم.
وأنشد لحسان:
ومنا الذي لاقي بسيف محمّد *** فجاس به الأعداء عرض العساكر
أبو عبيدة: طلبوا ما فيها كما يجوس الرجل الأخبار أي يطلبها.
القتيبي: عاشوا وقتلوا وأفسدوا.
ابن جرير: طافوا من الديار يطلبونهم ويقتلونهم ذاهبين وجائين فجمع التأويلات.
وقرأ ابن عبّاس: فجاسوا بالهاء ومعناها واحد.
{خِلاَلَ الديار وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً} قضاء كائناً لا خلف فيه {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة} الرجعة والدولة {عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً} عدداً.
قال القتيبي: والنفير من نفر مع الرجل من عشيرته وأهل بيته، يقال: النفير والنافر، وأصله القدير والقادر.
{إِنْ أَحْسَنْتُمْ} يابني إسرائيل {أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ} لها ثواباً ونفعها {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} أي فعليها كقوله: {فَسَلاَمٌ لَّكَ} [الواقعة: 91] أي عليك.
وقال محمّد بن جرير: قالها كما قال: {بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} [الزلزلة: 5] أي إليها، وقيل: فلها الجزاء والعقاب.
وقال الحسين بن الفضل: يعني فلها رب يغفر الإساءة.
{فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة} أي المرة الآخرة من إفسادكم وذلك على قصدهم قتل عيسى عليه السلام يحيى حين رُفع، وقتلهم يحيى بن زكريا عليه السلام فسلط الله عليهم الفُرس والروم [.
.............] قتلوهم وسبوهم ونفوهم عن بلادهم وأخذوا بلادهم وأموالهم فذلك قوله: {لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ} أي ليحزن، واختلف القراء فيه، فقرأ الكسائي: لنسؤ بالنون وفتح الهمزة على التعظيم اعتباراً، وقضينا وبعثنا ورددنا وأمددنا وجعلنا.
وروى ذلك عن علي رضي الله عنه: وتصديق هذه القراءة قرأ أُبي بن كعب: لنسؤنّ وجوهكم بالنون وحرف التأكيد.
وقرأ أهل الكوفة: بالياء على التوحيد، ولها وجهان: أحدهما ليسؤ الله وجوهكم، والثاني ليسؤ العدو وجوهكم.
وقرأ الباقون: ليسؤ وجوهكم بالياء وضم الهمزة على الجمع، بمعنى ليسؤ العباد أولي بأس شديد وجوهكم {وَلِيَدْخُلُواْ المسجد} يعني بيت المقدس ونواحيه {كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ} وليهلكوا أو ليدمروا {مَا عَلَوْاْ} غلبوا عليه تدميرا {تَتْبِيراً * عسى} لعلّ ربكم يابني إسرائيل {أَن يَرْحَمَكُمْ} بعد انتقامهم منكم {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا}.
قال ابن عبّاس: وإن عدتم إلى المعصية عدنا إلى العقوبة، فعادوا فبعث الله عليهم محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} معيناً سجناً ومحبساً من الحصر وهو الحبس، والعرب تسمى النخيل حصوراً والملك حصيراً لأنه محجوب محبوس عن الناس.
قال لبيد:
وقماقم غلب الرقاب كأنهم *** جن لدى باب الحصير قيام
أي باب الملك ومنه: انحصر في الكلام إذا احتبس عليه وأعياه، والرجل الحصور عن النساء وحصر الغائط. قال الحسن {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} أي فراشاً ومهاداً، ذهب إلى الحصير الذي يفرش، وذلك أن العرب تسمي البساط الصغير حصيراً، وهو وجه حسن وتأويل صحيح.
قال لبيد:
وقماقم غلب الرقاب كأنهم *** جن لدى باب الحصير قيام
أي باب الملك ومنه: انحصر في الكلام إذا احتبس عليه وأعياه، والرجل الحصور عن النساء وحصر الغائط.
قال الحسن {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} أي فراشاً ومهاداً، ذهب إلى الحصير الذي يفرش، وذلك أن العرب تسمي البساط الصغير حصيراً، وهو وجه حسن وتأويل صحيح.


{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12) وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)}
{إِنَّ هذا القرآن يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} أي الطريقة التي هي أسد وأعدل وأصوب {وَيُبَشِّرُ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} وهو الجنة {وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} وهي النار {وَيَدْعُ الإنسان} حذفت الواو هنا في اللفظ والخط ولم يحذف في المعنى لأنها في موضع رفع وكان حذفها باستقالتها اللام الساكنة كقوله: {سَنَدْعُ الزبانية} [العلق: 18] {وَيَمْحُ الله الباطل} [الشورى: 24]، و{يُؤْتِ الله المؤمنين} [النساء: 146] وينادي المنادي {فَمَا تُغْنِ النذر} [القمر: 5] ومعنى الآية ويدع الانسان على ماله وولده ونفسه بالسوء وقوله عند الضجر والغضب: اللهم العنه اللهم أهلكه {دُعَآءَهُ بالخير} أي كدعائه ربه أن يهب له العافية والنعمة ويرزقه السلامة في نفسه وماله وولده بالشر لهلك ولكن الله بفضله لا يستجيب له في ذلك، نظيره قوله تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس: 11] {وَكَانَ الإنسان عَجُولاً} عجلاً بالدعاء على مايكره أن يستجاب له فيه.
قال مجاهد وجماعة من المفسرين، وقال ابن عبّاس: يريد ضجراً لا صبراً له على سراء ولا ضرّاء.
وقال قوم من المفسرين: أراد الانسان آدم.
قال سلمان الفارسي: أول ما خلق الله من آدم رأسه، فجعل ينظر وهو يخلق جسده فلما كان عند العصر بقيت رجلاه لو يبث فيها الروح، فقال: يارب عجّل قبل الليل فذلك قوله: {وَكَانَ الإنسان عَجُولاً}.
وروى الضحاك عن ابن عبّاس قال: لما خلق الله رأس آدم نظر إلى جسده فأعجبه، فذهب لينهض فلم يقدر، فهو قول الله {وَكَانَ الإنسان عَجُولاً} وقيل: المراد آدم فإنه لما اهتدى للصح إلى سترته ذهب لينهض فسقط، يروى أنه علم وقع أسيراً إلى سودة بنت زمعة فرحمته لأنينه فأرخت من كتافه فهرب فدعا النبي عليها بقطع اليد ثم ندم فقال: اللهم إنما أنا بشر فمن دعوت عليه فاجعل دعائي رحمة له فنزلت هذه الآية.
{وَجَعَلْنَا اليل والنهار آيَتَيْنِ} دلالتين وعلامتين على وحدانيتنا ووجودنا وكمال علمنا وقدرتنا وعدد السنين والحساب {فَمَحَوْنَآ آيَةَ اليل} قال أبو الطفيل: سأل ابن الكواء علياً رضي الله عنه فقال: ما هذا السواد في القمر؟ فقال علي: {فَمَحَوْنَآ آيَةَ اليل وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً} وهو المحو.
وقال ابن عباس: الله نور الشمس سبعين جزءاً ونور القمر سبعين جزءاً فمحا من نور القمر تسعة وستين جزءاً فجعله مع نور الشمس فالشمس على مائة وتسعة وثلاثين جزءاً والقمر على جزء واحد.
{وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار} وهي الشمس {مُبْصِرَةً} منيرة مضيئة.
وقال أبو عمرو بن العلا: يعني بصرها.
قال الكسائي: هو من قول العرب أبصر النهار إذا أضاء وصار بحالة يبصرها.
وقال بعضهم: هو كقولهم: رجل خبيث مخبث إذا كان أصحابه خبثاء ورجل مضعف إذا كانت دوابه ضعافاً فكذلك النهار مبصراً إذا كان أهله بصراء.
{لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} إلى قوله: {فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} بينّاه تبييناً.
مقاتل بن علي عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله تعالى لما أبرم خلقه فلم يبق من خلقه غير آدم خلق شمساً من نور عرشه وقمراً فكانا جميعاً شمسان فأما ما كان في سابق علم الله أن يدعها شمساً فإنه خلقها مثل الدنيا ما بين مشارقها ومغاربها وأما ما كان في سابق علمه أن يطمسها فيحولها قمراً فخلقها دون الشمس من العظيم ولكن إنما يرى صغرهما من شدة ارتفاع السماء وبعدها من الأرض، فلو ترك الله الشمس والقمر كما خلقهما لم يعرف الليل من النهار ولا النهار من الليل ولا كان يدرك الأجير إلى متى يعمل ومتى يأخذ أجره ولايدري الصائم إلى متى يصوم ومتى يفطر، ولا تدري المرأة كيف تعتد ولا يدري المسلمون متّى وقت صلاتهم ومتى وقت حجهم، ولا يدري الديان متّى يحل دينهم ولا تدري الناس متى يبذرون ويزرعون لمعاشهم ومتى يسكنون لراحة أبدانهم فكان الرب سبحانه أنظر لعباده وأرحم بهم فأرسل جبرائيل فأمّر جناحه على وجه القمر وهو يومئذ شمس فطمس عنه الضوء وبقي فيه النور، فذلك قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اليل والنهار آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ اليل وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً} والسواد الذي ترونه في جوف القمر يشبه الخطوط، فهو أثر المحو».
{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} قال ابن عباس: وما قدر عليه من خير وشر فهو ملازمه أينما كان.
الكلبي ومقاتل: خيره وشره معه لايفارقه حتّى يحاسب به وتلا الحسن: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} ثمّ قال يا بن آدم بسطت لك صحيفتك ووكل بك ملكان أحدهما عن يمينك والآخر عن يسارك فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذين عن شمالك فيحفظ سيئاتك فاعمل ما شئت أقلل أو أكثر حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك معك في قبرك حتى تخرج يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً.
مجاهد: عمله ورزقه، وعنه: ما من مولود يولد إلاّ وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد.
وقال أهل المعاني: أراد بالطائر ما قضى عليه أنه عامله في ماهو صائر إليه من سعادة أو شقاوة، وإنّما عبر عنه بالطائر على عادة العرب كما كانت تتفاءل به أو تتشاءم من سوانح الطير وبوارحها.
أبو عبيد والعيني: أراد بالطائر حظه من الخير والشر عن قولهم طار منهم فلان بكذا أيّ جرى له الطائر بكذا.
وقرأ الحسن ومجاهد وأبو رجاء: طائره في عنقه بغير ألف وإنّما خص عنقه دون سائر أعضائه، لأن العنق موضع السمات وموضع القلائد والأطراف وغير ذلك مما يشين أو يزين، فجرى كلام العرب بنسبة الأشياء اللازمة إلى الأعناق فيقولون هذا في عنقي حتّى أخرج منه وهذا الشيء لازم صليت عنقه.
{وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً} قرأ الحسن ومجاهد وابن محيصن ويعقوب: ويخرج بفتح الياء وضم الراء على معنى ويخرج له الطائر يوم القيامة كتاباً نصب كتاباً على الحال، ويحتمل أن يكون معناه ويخرج له الطائر فيصير كتاباً.
وقرأ أبو جعفر: ويخرج بضم الياء وفتح الراء على غير تسمية الفاعل ومجازه ويخرج له الطائر كتاباً.
وقرأ يحيى بن وثاب: ويخرج أيّ ويخرج الله.
وقرأ الباقون: بنون مضمومة وكسر الراء على معنى ونحن نخرج له يوم القيامة كتاباً ونصب كتاباً بإيقاع الاخراج عليه واحتج أبو عمرو لهذه القراءة بقوله الزمناه.
{يَلْقَاهُ} قرأ أبو عامر وأبو جعفر: تلقاه بضم التاء وتشديد القاف يعني تلقى الانسان ذلك الكتاب أي يؤتا. وقرأ الباقون: بفتح الياء أي يراه.
{مَنْشُوراً} نصب على الحال.
عن بسطام بن مسلم قال: سمعت أبا النباج يقول سمعت أبا السوار العدوي يقرأ هذه الآية ثمّ قال: نشرتان وعليه ماحييت يابن آدم فصحيفتك منشورة فاعمل فيها ما شئت، فإذا مت طويت ثمّ إذا بعثت نشرت.
{اقرأ كتابك} يعني فيقال له إقرأ كتابك {كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً} محاسباً مجازياً.
قتادة: سيقرأ يومئذ كل من لم يكن في الدنيا مُجَازياً.
وقال الحسن: قد عدل والله عليك من جعلك حسيب نفسك.
{مَّنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ} لها نوليه {وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} لأن عليها عقابه {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} ولا يحمل حامله عمل أخر من الأثام {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} إقامة للحجة عليهم بالآيات التي تقطع عذرهم {وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا}.
قرأ عثمان النهدي وأبو رجاء العطاردي وأبو العالية وأبو جعفر ومجاهد: أمّرنا بتشديد الميم أيّ خلطنا شرارها فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكتهم.
وقرأ الحسن وقتادة وأبو حياة الشامي ويعقوب: أمرنا ممدودة أي أكثرنا.
وقرأ الباقون: بكسر الميم، أي أمرناهم بالطاعة فعصوا، ويحتمل أن يكون بمعنى جعلناهم أمراً لأن العرب تقول أمر غير مأمور أي غير مؤمر، ويجوز أن يكون بمعنى أكثر مايدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «خير المال مهرة مأمورة أو سكة مأبورة» أراد بالمأمورة كثرة النسل ويقال للشيء الكثير: أمر، والفعل منه أمر يأمرون أمراً إذا كثروا.
وقال لبيد:
كل بني حرة مصيرهم *** قل وإن أكثرت من العدد
إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا *** يوماً يصيروا للهلك والنفذ
وإختاره أبو عبيد وأبو حاتم وقرأه العامّة.
وقال أبو عبيد: إنما إخترنا هذه القراءة، لأن المعاني الثلاثة تجتمع فيها يعني الأمر والأمارة والكثرة، {مُتْرَفِيهَا} [...] وهم أغنياؤها ورؤساءها {فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القول} يوجب عليها العذاب {فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} فجزيناهم وأهلكناهم إهلاكاً بأمر فيه أُعجوبة.
روى معمر عن الزهري قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما على زينب وهو يقول: «لا إله إلاّ الله ويلٌ للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه» قالت: يارسول الله أنهلك وفينا الصالحون، قال: «نعم إذا كثر الخبث».

1 | 2 | 3 | 4